البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 2)
4 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 2)
إذن هناك أشياء في فعل رسول الله أي في طريقته أي في سنته هي دين وهناك أشياء ليست دين وإنما هي بحكم العادات والتقاليد، بحكم الجبلة والطبيعة بالنسبة للإنسان فهذا علم من العلوم ولكنه علمٌ يكاد يكون مجهولاً بالنسبة للمثقفين المسلمين والناس أحيانًا تتصور أن كل حديث موجود لابد أن تكون ملزم بتنفيذه لكن من كتب في هذا الفن من الفقهاء والأصوليين ومن أبرزهم إمام من أئمة الفقه والأصول في المذهب المالكي وهو مصري وهو القرافي (أحمد بن إدريس القرافي)( ) له كتاب نفيس من أنفس الكتب التي كتبت في أنواع السنة النبوية وأقسامها اسمه "الإحكام في التمييز ما بين الفتاوى والأحكام وتصرفات القاضي والإمام" فقسم السنة إلى: فتاوى، وأحكام للقضاة، وتصرفات الإمام بحكم السياسة (والإمام هو الخليفة)، هذا كتاب، نجد أيضًا من علماء الحديث والأصوليين هندي اسمه ولي الله الدهلوي( ) له كتاب اسمه "حجة الله البالغة" هذا الكتاب طُبع في مصر قديمًا وكان الشيخ سيد سابق -عليه رحمة الله- وضع له تحقيق عقد فيه فصل وأسماه أقسام العلم النبوي سجل فيه ما قلته: إن السنة منها ما هو دين يؤُخذ من الكتاب ويُطبق بدون سؤال أحد، ومنها ما هو تصرفات في السياسة في العادات في التقاليد في الأعراف هذا ليس دينًا ولست ملزمًا بها وسأضرب لكم أمثلة في هذا.
ومن الذين كتبوا في السنة التشريعية وغير التشريعية الشيخ ابن عاشور( ) -عليه رحمة الله، الشيخ علي الخفيف -عليه رحمة الله- وفي دار نهضة مصر في سلسلة التنوير طبعت ما كتبه الشيخ ابن عاشور والشيخ علي الخفيف، وأعددت دراسة، وكذلك أعد الدكتور محمد سليم العوا دراسة أخرى وأصدرناها في كتيب بعنوان "السنة التشريعية والسنة غير التشريعية" هذا لمن لا يريد أن يقرأ للقرافي وغيره يجد تقسيم أنواع السنة في هذا الموضوع، وأيضًا نشرنا كتيب صغير للشيخ الخضر حسين وكان عالم فاضل عن "السنة والبدع" في نفس السلسلة الخاصة بنهضة مصر وهؤلاء من الممكن أن يعرفوا ما معنى أقسام السنة وأن فيها جزء دين شرح للرسالة للدين الثابت وفيها أشياء أخرى ليست دينًا تتغير بتغير الزمان والمكان وسأضرب أمثلة واقعية على السنة أنها ليست دينًا وليست ملزمة وليست ثابتة وليست خالدة.
نماذج من السنة
الرسول عندما كان يحارب كان يقسم الجيش ميمنة وميسرة وقلب، هل نحن اليوم عندما نحارب نقسم الجيش كتقسيم الرسول له حتى نقول إننا نريد تطبيق السنة. أرى أن ذلك لا يجوز فالأوضاع تغيرت وأسلوب الحروب تغيرت ونوع السلاح المستخدم تغير فبعض الحروب تدار ولا تلتقي فيها الجيوش عن طريق القصف المدفعي أو الصاروخي بعيد المدى، فالرسول كان يقسم الجيش بالطريقة التي تحقق المقصد، أما نحن اليوم فنقسم الجيش تقسيمات جديدة ليس لها علاقة بتقسيمات رسول الله فهذه سنة أي فعل لرسول الله ولكن ليست ملزمة وليست دينًا.
مثال آخر الرسول يقول في حالة الحرب: "من قتل قتيلاً فله سلبه"( ) من قتل شخص يأخذ متعلقاته أما الآن عندما يوقع جندي طائرة فهل يأخذها؟، أو عندما يصيب دبابة هل يأخذها؟ لا يستطيع أحد أن يقول ذلك فهذه من الأمور السياسية والحربية والفروع والمتغيرات التي ليست دينًا ثابتًا وبالتالي ليست جزءًا من الدين الثابت فعندما أقرأ هذا الحديث في كتاب لا أطبقه، وإنما أسأل إمام الوقت الحالي والدولة الحالية عن رأيهما في هذا الموضوع.
حديث آخر: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً، فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ"..( ) فالإسلام كان يُحدث تنمية وكانت الأرض صحراء فكان يشجع الناس على زراعة الأرض، واليوم هل يمكن أن يذهب أحد للصحراء الغربية ليستولي على الأرض بحكم سنة رسول الله ويقول إنه يقوم بتطبيق الحديث؟!.
إذن هناك سنة يمكن تطبيقها بدون سؤال الحاكم موجودة في البخاري ومسلم بدون تطبيق وهي سنة مرتبطة بأصول الدين مثل أن نقول كيف نتوضأ أو كيف نصلي أو كيف نصوم؟ كل هذه سنن عبارة عن دين لا نحتاج فيها أن نستأذن أحد، إنما هناك سنن في الفروع السياسية والمتغيرات التي هي جزء من التاريخ، جزء من الحضارة، جزء من السياسة ولذلك قبل أن نطبقها نسأل الإمام.
السنة والقضاء
القضاء عندما تقرأ السنة النبوية تجد مؤلف اسمه "الأعظمي"( ) جمع "أقضية رسول الله " أي القضايا التي عُرضت على رسول الله وقضى فيها باعتباره قاضي والرسول في حيث: (حديث مرفوع) أنا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ الْوَاسِطِيُّ ، ثنا أَبُو زَيْدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَامِرٍ ، بِالْكُوفَةِ، نا أَبُو الطَّيِّبِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازُ الْجُعْفِيُّ ، نا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَضِرٍ الْبَزَّازُ ، نا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اخْتَصَمَ رَجُلانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ".( )
قوله: «ولا يحكم بعلمه» يعني لو تخاصم إليه اثنان، وهو يعلم أن المدعي صادق فيما ادعاه، فهل يحكم بعلمه؟ المؤلف يقول: لا يحكم بعلمه، ولو كان يعلم مثل الشمس أنه صادق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنما أقضي بنحو ما أسمع. ولم يقل: بنحو ما أعلم، فجعل الحكم مبنياً على الأمور الحسية الظاهرة؛ لئلا يكون القاضي محل تهمة؛ لأنه إذا حكم بعلمه قال الناس: حكم لفلان على فلان، وهو مدعٍ بدون شهود فيتهمونه.
ثم لو فتحنا الباب وقلنا: إن هذا القاضي من أعدل عباد الله ولا يحكم إلا بالحق، يأتي قاضٍ آخر ويحكم بالباطل، ويقول: هذا الذي أعلمه! وهذا ممكن، فلو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فَسدُّ الباب هو الأولى. فإذا تحاكم إليَّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين؛ لأن المدعى عليه جاء عندي البارحة وأقر، فماذا أعمل؟ أحوِّل القضية إلى قاضٍ آخر، وأكون شاهداً.
وظاهر كلام المؤلف أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً، ولكن هنا ثلاث مسائل استثناها العلماء، قالوا: إنه يحكم بعلمه فيها: الأولى: عدالة الشهود وجرح الشهود، فإذا كان يعلم عدالة الشاهدين حكم بشهادتهما بدون طلب تزكية، وإذا كان يعلم جرحهما رد شهادتهما بدون جارح؛ لأن هذا ليس حكماً مباشراً حتى يتهم القاضي فيه، وإنما هو حكم بسبب الحكم، أو حكم بالذي ينبني عليه الحكم.
الثانية: ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به، مثل أن يتحاكم إليه اثنان، وفي أول الجلسة أقر المدعى عليه بالحق، ثم بعد ذلك أنكر، فيحكم عليه؛ لأنه ما زال في مجلس الحكم، وقد سمع من المدعى عليه الإقرار فوجب عليه أن يحكم به، حتى لو أنكر بعد ذلك ما يقبل.
الثالثة: إذا كان الأمر مشتهراً واضحاً بيناً، يستوي في علمه الخاص والعام، القاضي وغيره، فهنا يحكم بعلمه، مثال ذلك: اشتهر في البلد أن هذا الملْك وَقْفٌ على الفقراء من أزمان طويلة، فجاءت ذرية الواقف، وقالوا: هذا لنا، هذا لأبينا ولجدنا، وكان القاضي يعلم كما يعلم سائر الناس أن هذا الملْك وقف، فهنا يحكم بعلمه؛ لأنه مشتهر والاتهام منتفٍ، ودخول من لا يوثق فيه – أيضاً- منتفٍ"( ) معنى ذلك أن القضاء النبوي ليس وحيًا وليس معصومًا كما هو الحال في القرآن لأنه يقضي بناءً على المدعي والمدعى عليه فمن الممكن أن يكون الشخص كاذب ويغش في مرافعته ولذلك حذره رسول الله لأن القاضي لا يقضي بعلمه، وبالتالي لو أن لديك قضية أو مشكلة بالضبط مثل المشكلة الموجودة في كتاب أقضية الرسول فلا تقل أن الحكم هو الحكم الذي قضى به رسول الله وإنما تسأل قاضي عصرك وزمانك، وكل هذه الأمور ذكرها "القرافي" وذكرها "ولي الله الدهلوي" في موضوع إحياء الأرض الموات، وفي موضوع تنظيم الجيش، وفي كثير من الأمور السياسية، وفي العادات، وفي التقاليد، وفي الجبلة، وفي الطعام، وفي الأزياء، بما في ذلك تربية اللحية فمن يقول إن تربية اللحية من الدين هذا ليس صحيحًا "فأبو جهل" كان لديه لحية. السنة التي هي دين والتي يتميز بها الدين الإسلامي ولا توجد في غير الدين الإسلامي إنما القسيس يربي لحيته والحاخام يربي لحيته وأبو جهل كان مربي لحيته وهذه جزء من كمال الرجولة في مجتمع النبوة حتى الإمام "أحمد بن حنبل" كان يعتبرها جزء من الزينة بالنسبة للإنسان.
إذن هناك أشياء تميز بين ما هو دين ثابت وضع إلهي ثابت وإذا لم تفعله فهو حرام، وبين الأمور التي لها ارتباط بالعادات والتقاليد والأعراف مثل الأزياء والسياسة وما شابه.. فهذه هي معنى السنة وأقسام السنة النبوية وكيف أن السنة النبوية فيها هذا البعد الحضاري.
مصطلح الحضارة
المصطلح الثاني هو مصطلح الحضارة –فقد قلنا البعد الحضاري- وهنا أريد أن أقف معكم لأن هذه النقطة موضع خلط فعندما ترجع إلى أي قاموس أو أي موسوعة لمعرفة معنى الحضارة ستجد أن هناك معاني مختلفة لأن المضامين والمفاهيم الغربية غزت مصطلحاتنا وعقولنا، فالدين معناه لدينا هو وحي إلهي، ولكنهم يعتبرون الدين إفراز للعقل البشري.. نحن نعتبر التوحيد بدأت به الإنسانية مع سيدنا آدم عليه السلام، وهم يعتبرون التوحيد مرحلة من مراحل ارتقاء العقل البشري بعد مرحلة الوثنية.. فكثير من المصطلحات حتى المصطلحات الشائعة تجد أن مضمونها الغربي مختلف عن مضمونها الإسلامي، السياسة عند مكيافيللي( ) في الحضارة الغربية هي "فلسفة القوة والغاية تبرر الوسيلة"، ولكن عندنا مثلما يقول "ابن القيم" "هي التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" أي أنها مرتبطة بالقيم والأخلاق إذن المضامين الخاصة بالمصطلحات بما في ذلك مصطلح الحضارة هناك من يقول أنها هي المدنية أو أنها هي الثقافة...الخ.
الحضارة في المصطلح الإسلامي -وهذا منهج نتعلمه- فعندما أقوم بتأليف كتاب أو كتابة مقال وأمامي مصطلح من المصطلحات ما هو المنهج الإسلامي والعربي؟ لمعرفة مضمون المصطلح
أولاً أرجع إلى معناه في القرآن؛ لأن القرآن هو كتاب الأمة الأول مثل كتاب العربية الأول فالنحو يقاس على القرآن ولا يقاس القرآن على النحو... فأرجع لمعنى المصطلح في القرآن ومعنى المصطلح في السنة وفي الشعر العربي وفي التراث اللغوي العربي هذا هو المنهج العلمي لعلماء الإسلام كيف يفسر المصطلح، وكيف تتعامل مع المصطلح؟.
بالنسبة لمصطلح الحضارة بهذا المنهج ما هو معناه؟ نرى في القرآن الحديث عن ﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها هذا المصطلح في القرآن الكريم، إذن الحضارة من الحضور من الاستقرار ولذلك فإن الحضارة المقابل لها هي البداوة لأن البداوة فيها ترحال فلا يوجد تراكم معرفي وبناء معرفي مع الترحال فالشاعر أو القبيلة تقيم هنا اليوم وغدًا تذهب بحثًا عن المرعى تنتقل من مكان إلى مكان، فالبداوة من الممكن أن يكون فيها ثقافة ولذلك فإن الشعراء في الجاهلية وفي البداية كانوا مثقفين ولديهم حكمة وكانوا يكتبون أشياء عظيمة... عندما نقرأ المعلقات وغيرها. ولكن لم يكن لديهم حضارة لأنهم لا يملكون الاستقرار الذي يقيم بناء معرفي وتراكم معرفي.
إذن الحضارة لابد أن يكون فيها ثقافة ولابد أن يكون فيها حضور واستقرار. وتعرفون أن مصر منذ أيام محمد علي كان هناك ما يسمى بـ "توطين البدو" فالبدو كانوا يستقرون في القرية، فالقرية من القرار والاستقرار. فالحضور ﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ إذن يلزم للبناء الحضاري ولبناء حضارة أن يكون لدينا ثقافة ومدنية واستقرار.
ما هو الفرق بين الثقافة وما بين المدنية؟ الثقافة هي كل ما يعمر النفس الإنسانية. المدنية هي كل ما يعمر الواقع المادي فلدينا علوم مدنية من زراعة وصناعة وتجارة، كل الأمور التي تزين وتعمر الواقع الذي نعيش فيه، أما الثقافة فهي كل العلوم والآداب والفنون التي تعمر الوجدان والقلب والنفس الإنسانية. والمدنية والثقافة عندما يتوفرا في مجتمع مستقر تكون الحضارة قد تكونت بكل أبعادها وبكل ميادينها.
نحن الآن عرفنا السنة وأقسامها وعرفنا معنى مصطلح الحضارة.
إنشاء الدولة في عهد النبي
وكما قلت فإنه دون دولة لا يمكن أن يكون هناك حضارة ولذلك فإن الدولة أصبحت جزء من السنة النبوية أي أن البعد الحضاري للسنة النبوية بدأ بتكوين الدولة، وكما قلت إنه في المرحلة المكية كان الجزء الهام هو بناء الشخصية ولذلك فإن الصناعة الثقيلة في المرحلة المكية كانت هي صناعة الإنسان، ولذا أول مؤسسة في المرحلة المكية كانت هي دار الأرقم ابن أبي الأرقم -مؤسسة تربوية- ولكن قبل الهجرة تأسست الدولة، والجزء الخاص بتأسيس الدولة يمثل عامود أساسي في بناء الحضارة الإسلامية وللبعد الحضاري للسنة النبوية وسأقف حولها قليلاً لأني سأقول كلامًا ليس إدعاءً ولكن هناك أشياء جديدة فتح الله عليّ بها واكتشفتها ولم يتحدث فيها غيرنا بشكل واضح أو قد يكون هناك من تحدث ولكني لم أقرأ عنها.
الرسول عندما حوصر في مكة وظل ثلاثة عشر سنة كل من آمن به وصمدوا أقل من مئة شخص -لكي نعرف مدى الجهد الذي حدث في تأسيس وتثبيت النعمة التي ننعم بها الآن، وأصبحنا الآن مليار ونصف مليار بالرغم من أننا غثاء كغثاء السيل- وسأضرب مثلاً عندما استأذن "عمرو بن العاص" "عمر بن الخطاب" في فتح مصر وكان عمر بن الخطاب مترددًا وليس سبب التردد مثل ما ذكر المؤرخون حتى لا يكون هناك فاصل بحري بين الجيش وبين العاصمة هذا ليس هو السبب وإنما لأن الرومان لديهم في مصر مائة وعشرين ألف جندي بِعُدد لا نظير لها وحصون ورائها حصون وكانت هذه هي المعركة الفاصلة ولذلك فإن المسلمين قاموا بفتح الشام والعراق والخليج وفارس في عام واحد بينما فتح مصر استغرق خمس سنوات لأن هرقل أدرك أن هذه هي المعركة الفاصلة فإذا سقطت الإسكندرية ضاع مُلّك الروم فهذه كانت العاصمة لهم.
عمرو بن العاص عندما استأذن عمر كان عمر بن الخطاب مترددًا لأن المعركة ليست سهلة ولكنه أشار على عمرو بن العاص بأن يأخذ أربعة آلاف من الجنود ويتوكل على الله ودار هذا الحديث في الشام أثناء فتح مدينة القدس، وأشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه سوف يشاور الصحابة عند رجوعه للمدينة، وعلى ضوء تلك الشورى سيرسل له خطاب إما أن يأمره فيه بالرجوع قبل أن يدخل مصر، وإذا كان دخل مصر فليتوكل على الله.. فعندما جاء عمرو بن العاص بجيش قوامه أربعة آلاف ودخل معركة الفرمة( ) وغيرها من المعارك إلى أن وصل إلى بلبيس ثم عندما وصل إلى حصن بابليون في مصر القديمة وجد أمامه قوات وحصون كبيرة فأرسل لعمر بن الخطاب يطلب منه المدد فرد عمر بن الخطاب بأنه سيرسل له أربعة آلاف آخرين وسيرسل أربعة من الصحابة كل منهم بألف فيكون المجموع اثنا عشر ألف - فالعدد ليس معيار-
أعود لموضوع الدولة ونشأتها، قبل الهجرة من مكة إلى المدينة فتح الله على رسوله بعد عام الحزن –وهو العام الثالث قبل الهجرة الذي توفيت فيه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وأسماه المسلمون عام الحزن أي حداد سنة كاملة من أجل السيدة خديجة وهذا يبين لنا دور المرأة في الإسلام- فالعام الثالث كان عام الحزن وأراد الله –سبحانه وتعالى- أن يفتح أمام رسول الله فتوحات لا حدود لها أولاً في العام الذي يليه كان الإسراء والمعراج وفتح أمامه أبواب السماء، وفي نفس العام جاء الأوس والخزرج لأداء فريضة الحج وقابلهم الرسول وبايعوه على الإسلام في بيعة العقبة الأولى وطلبوا منه أن يرسل معهم الصحابي مصعب بن عمير ليعلمهم القرآن الكريم. واجتهد مصعب بن عمير اجتهاداً كبيراً في نشر الدعوة الإسلامية ولذلك سمي بأول سفير في الإسلام و بدأ الإسلام ينتشر في المدينة فأسلم أبناء عمرو بن الجموح وأسلم بعدها عمرو بن الجموح ثم أسلم الطفيل بن عمرو وهو سيد قبيلة دوس وذهب الطفيل يدعو في قومه حتى أسلمت قبيلة دوس جميعاً وأتى بهم يبايعون الرسول وأنتشر الإسلام انتشار هائل في هذا العام.
وفي العام التالي في بيعة العقبة الثانية في العام الثالث عشر من الدعوة الإسلامية أتى من المدينة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من قبيلتي الأوس والخزرج فجلسوا مع الرسول واتفقوا مع الرسول على تأييده وبايعوه على أن يحموه كأبنائهم وإخوانهم ولهم الجنة، ودعوا الرسول ليلحق بهم في يثرب، واتفقوا معه على الدولة، ويقع مكان تلك البيعتين في المكان الذي نرمي فيه الجمرات، ولذلك فقد أعددت بحثًا عن "فقه المكان" وكيف نحن بحاجة لمعرفة معاني الأماكن التي نذهب إليها ونتذكر من خلالها كيف ضحى الرسول في سبيل نشر الدعوة فنحن نذهب مثل السائحين ولكن أن تعرف ما هي العقبة التي ذهبت عندها لرمي الجمار وما الذي حدث فيها؟ وهو عقد تأسيس الدولة الإسلامية الأولى وحضر هذه الجمعية العمومية خمسة وسبعون شخصًا من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتين وهذا يعني أن المرأة مارست أعلى مستويات الولاية السياسية قبل أربعة عشر قرنًا وليس كما يثار حالياً من بعض الناس في هذه الأيام حول موضوع هل تنتخب المرأة أم لا تنتخب؟ فبداية عقد تأسيس الدولة الإسلامية من تاريخ بيعة العقبة الثانية فقد اتفقوا مع الرسول كما قلنا سابقاً أن يهاجر إليهم ويحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وأموالهم و... الخ.
فهذه البيعة تمثل عقد اجتماعي حقيقي ليس متوهماً ويتقدم على ما كتبه خاصة الفرنسيين مثل "مونتسكيه" عن العقد الاجتماعي فهذه عقود متوهمة يتصورون فيها أن المحكوم اتفق مع الحاكم وتعاقد معه على إقامة دولة، ولكن نحن لدنيا العقد عقد حقيقي من خلال أشخاص التقوا وناقشوا وعقدوا عقد حقيقي وعندما أتوا للعقد والمبايعة قال لهم الرسول: "اختاروا منكم اثني عشر نقيبًا" بالانتخاب وليس مثلما تدعي الآن "كوندليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش، أنها سوف تعلمنا الديمقراطية وآليات الانتخابات بل إنه قبل أربعة عشر قرنًا تأسست الدولة بالانتخاب وليس فقط بالانتخاب وإنما بالمؤسسة وهذه هي النقطة التي أريد لفت النظر إليها... فالدولة الإسلامية التي هي البعد الحضاري للسنة النبوية دولة مؤسسات بُنيت على ثلاث مؤسسات -وبعضكم قد يرى هذا أنه حديث جديد- هناك ثلاث مؤسسات المؤسسة التي ولدت في بيعة العقبة التي هي من القبائل الاثنى عشر، والتي تسمى بالنقباء وهم:
1. أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ
2. وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ
3. وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ , وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ
4. رَافِعُ بْنُ مَالِكِ
5. وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ
6. عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ
7. وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
8. الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضَلَةَ
9. عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي
10. قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ
11. أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ
12. عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ
فهذه مؤسسة دستورية انتُخبت ونابت عن الآخرين في عقد تأسيس الدولة ومبايعة رسول الله ، وظلت الدولة -وأحيانًا في بعض الكتب التاريخ نجد كلمات تغيب عن الناس ولا تدركها مثل أن يقال أن فلان عضو في الإثنى عشر وعضو في السبعين وسأفسر لكم موضوع السبعين وهي مؤسسة ثالثة... إذن لدينا مؤسسة ولدت في بيعة العقبة في السنة الأولى قبل الهجرة، والمؤسسة الثانية هي المهاجرين الأولين (العشرة) وللأسف الشديد في كتب السنة وفي كتب التراث اختزلوا هذه المؤسسة في العشرة المبشرين بالجنة. نعم هم مبشرين بالجنة ولكن هل التبشير بالجنة وظيفة فهل يكون لدينا مؤسسة فيها عشرة نطلق عليهم المبشرين بالجنة بالرغم من أن القرآن يقول أن كل المسلمين مبشرين بالجنة ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي﴾ تبحث عن مصطلح البشارة والتبشير في القرآن تجد أن كل المؤمنين مبشرين بالجنة فلماذا اقتصر التبشير على العشرة فالعشرة مبشرين بالجنة ولكنها ليست وظيفتهم وليست هي الصفة التي جعلتهم مؤسسة تسمى باسم المهاجرين الأولين هؤلاء العشرة منهم أربعة الخلفاء الراشدين ثم أبو عبيدة بن الجراح (أمين الأمة) وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل هؤلاء العشرة اختزلت وظيفتهم وأسموهم المبشرين بالجنة هؤلاء العشرة اسمهم المهاجرين الأولين ماذا يعني ذلك؟ هذا ما يحدد وظيفتهم هم أولاً مهاجرين أي قرشيين كانوا قيادات بطون قريش في مكة وكانوا زعماء حتى قبل الإسلام فأبو بكر مثلاً كان مختص بالأنساب، وعمر كان مختص بالسفارات وغيرهم فكان لهم قيادة وكل منهم يمثل وظيفة بطن من بطون قريش وأنتم تعرفون أن القبيلة توزع إلى بطون وأفخاذ.. إذن هم مهاجرين لأنهم قرشيين ومهاجرين أولين لأنهم أول الناس دخولاً في الإسلام ولكي تعرفوا معنى المؤسسة فقد كانوا يعتبرون مثل الوزراء في حكومة رسول الله وكان لهم اختصاصات فعندما بُني مسجد المدينة وهذا المسجد كان للقيادة ودار للتدريب والحرب والذكر والفكر والتعليم وكل شيء فقد كان هذا المسجد مكانًا للحكومة ولرئاسة الجمهورية والعشرة المهاجرين الأولين منازلهم كانت تحيط بالمسجد ولبيوتهم أبواب تفتح في المسجد وهي خصيصة ليست لأحد آخر لكي نعرف ما هو معنى أنهم المهاجرين الأولين وأن هذه مؤسسة دستورية وسأتحدث عن اختصاصاتها.
اختصاصات المهاجرين الأوائل والأنصار
في "أسد الغابة" عبارة يتحدث فيها عن هؤلاء العشرة يقول "إنهم كانوا في الصلاة يقفون خلف رسول الله وفي الحرب يقفون أمام رسول الله " فهذه دولة مؤسسات فنحن اليوم نتحدث عن مؤسسة من المؤسسات.
كيفية اختيار الخلفاء الراشدين
عندما يأتي الحديث عن السياسة والدولة والخلافة نجد أن كل الذين كتبوا عن دولة الخلافة الراشدة أخطئوا عندما اجتمعوا على أن كل خليفة قد تولى بطريقة خاصة مختلفة عن الآخر فطريقة تولية خليفة رسول الله أبو بكر تختلف عن طريقة تولية عمر بن الخطاب وتختلف عن طريقة تولية عثمان بن عفان وكذلك عن طريقة تولية عليّ بن أبي طالب، وهذا ليس صحيحًا لأنه كان هناك دستور ونظام وعلاقة بين المؤسستين النقباء الاثنى عشر، والمهاجرين الأولين، فعندما توفي رسول الله سمع أبو بكر وعمر والمهاجرين الأولين أن الأنصار اجتمعوا في ثقيفة بني ساعدة لكي يختاروا منهم خليفة لرسول الله ليأخذوها باعتبارهم أهل المدينة فذهب ثلاثة من المهاجرين الأولين من العشرة هم (أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة) وورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال "أنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله أن عليًا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله وتخلف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟
فقلت: نريد إخواننا من الأنصار.
فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.
فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟
قالوا: سعد بن عبادة.
فقلت: ماله؟
قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفَّت دافة منكم (أي المهاجرون) تريدون أن تختزلونا (أي الأنصار) من أصلنا وتحضنونا من الأمر (أي الخلافة).
فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحكم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتى سكت.
فقال: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم.
وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت.
فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
فقلت لمالك: ما يعني: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟
قال: كأنه يقول: أنا داهيتها.
قال: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف.
فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعدا.
فقلت: قتل الله سعداً.
قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا.
قال مالك: فأخبرني ابن شهاب عن عروة أن الرجلين اللذين لقياهما: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي.
قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب: هو الحباب بن المنذر.
وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزهري به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية عن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عاصم، وحدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو: ابن مسعود - قال: لما قبض رسول الله قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر، فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة به. ورواه علي بن المديني عن حسين بن علي، وقال: صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم. وقد رواه النسائي أيضا من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم ابن أبي هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله.
وقد روي عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر، وجاء من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: قلت: يا معشر المسلمين إن أولى الناس بأمر النبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السباق المسن، ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع الناس. وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد فذكر نحوا من هذه القصة، وسمى هذا الرجل الذي بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال: هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير.
اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا، مات محمد ورب الكعبة، فذكر الحديث.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا، سلكت وادي الأنصار» ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم».
فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عباس، ثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذي عضوان العبسي عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل قال: وسألته عما قيل في بيعتهم.
فقال: وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة.
وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا: أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفا أن يقع فتنة أربى من تركه قبولها، رضي الله عنه وأرضاه.
قلت: كان هذا في بقية يوم الاثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع الناس في المسجد، فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله تسليما.
قال البخاري: أنبأنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام عن معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله ، وأبو بكر صامت لا يتكلم.
قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، هدي محمدًا وإن أبا بكر صاحب رسول الله وثاني اثنين، وأنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
قال الزهري عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر: اصعد المنبر!فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله ، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول: يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة"( ).
"فتكلم أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له، وفي يده الدرة، وما معه غيري، قال: وهو يحدث نفسه، ويضرب وحشي قدمه بدرته.
قال: إذ التفت إلي، فقال: يا بن عباس، هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، أنت أعلم؛ قال: فإنه والله، إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت"( ) فقد حسم هنا أبو بكر الخلاف بطريقة دستورية من خلال توزيع الاختصاصات بين المؤسستين وهنا أُنبه إلى فكرة المؤسسية في الدولة الإسلامية عندما قال: "منا الأمراء، ومنكم الوزراء" فالإمارة ورئاسة الدولة والخلافة في المهاجرين الأولين في العشرة، أما الوزارة والمعاونة فالوزير هو المعاون والمآزر هذا في المؤسسة الثانية (النقباء الإثني عشر).
ما الذي حدث عندما اتفقوا على المبدأ؟ اثنين من العشرة وهم: عمر وأبو عبيدة بن الجراح رشحوا الثالث وهو أبو بكر ثم جُمعت له البيعة العامة بعد ذلك... إذن طريقة تولي الخلافة التي تظهر أن كل الخلفاء ولوا بنفس الطريقة الدستورية وهي أن الترشيح يأتي من القيادة (العشرة) تقوم بترشيح الخليفة ثم تُجمع له البيعة، عندما حضرت أبو بكر الوفاة جمع العشرة واتفقوا على عمر وكتبوا كتاباً وبعدما توفى أبو بكر أُعلن الكتاب وجُمعت لهم البيعة العامة، وعندما طُعن عمر جمع بقية العشرة وهم ستة (من يسموا بأهل الشورى) هم من سينتخبوا الخليفة الذي سيأتي بعد عمر وعندما وجدهم ستة بدلاً من عشرة أضاف إليهم ابنه عبد الله بن عمر بحيث يكون له الرأي وليس السلطة –وهذا وضع دستوري- فهو ليس عضو في المؤسسة ولذلك له الرأي ولكنه وقت التصويت لا يكون له صوت لأنه ليس عضوًا في المؤسسة فاختاروا عثمان بن عفان بنفس الطريقة التي تم بها اختيار أبو بكر واختيار عمر بها، وعندما حدثت الثورة على عثمان وجاؤا الثوار لمبايعة عليّ بن أبي طالب قال: "هذا ليس لكم، هذا للمهاجرين الأولين" وقل عدد الأعضاء في الهيئة فبعضهم اعتزل الفتنة وبعضهم توفى فلم تحدث البيعة لعليّ إلا عندما انضم لهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله –بقايا الهيئة- فبايعوا عليّ وبعدما بايعوا عليّ جُمعت له البيعة العامة والإمام عليّ عندما وجد الهيئة الدستورية اقتصرت على عددٍ محدود عنّ له أن يوسع عضوية الهيئة فكيف يوسعها؟ اقترح إضافة بقايا البدريين الذي حضروا غزوة بدر إلى هذه الهيئة لكن جاءت أحداث الفتنة فلم تمكنه من هذا الموضوع.
رأيتم كيف تم تولية الخلافة الراشدة فجميع الخلفاء الأربعة تولوا بنفس الطريقة الدستورية من خلال اللجنة المركزية (العشرة) ترشح ثم يُتفق على الخليفة ثم تُجمع له البيعة ولاحظتم أيضاً أن الترشيح لا يكون نهائي إلا إذا بايعت الأمة فعندما طُعن عمر وكانوا يبحثون عن من يكون الخليفة –وهذا يُبين الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية فالديمقراطية الغربية كانت في أثينا الأحرار الفرسان الملاك الأشراف قلة يجتمعوا في ميدان هم من يقرروا وهم من لهم الحقوق، فعمر بن الخطاب لما طُعِن طعنته التي مات منها، أقبل عليه المسلمون، وطلبوا منه أن يستخلف، فقال: «مَنْ أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأُمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيَّك يقول: «إن سالماً شديد الحب لله» فقال له أحد المسلمين: استخلف ابنك عبد الله. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا. ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها لأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فإنّا قد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يُحاسب منهم رجل واحد، يُسأل عن أمر أُمة محمد. أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر، إني لسعيد»، فخرج المسلمون من عنده وتركوه يفكر في الأمر. ثم عادوا إليه مرة أخرى، وسألوه أن يستخلف، حرصاً على مصلحة المـسـلمـين. فقـال لهم: «عليكم هـؤلاء الرهـط، الذين مات رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال فيهم: إنهم مِـنْ أهل الجـنـة: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وسـعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عـوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله. ويكون معهم عبد الله بن عمر ولكن له الرأي ولا يكون له من الأمر شيء. وقد أوصـاهم عمر أن ينتخبوا خليفة. وضـرب لهم أجلاً قدره ثلاثة أيام. وقال لهم بعد حديث طويل: فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام. ولـيُصـلّ بالناس صُهيب. ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم» ثم عيّن عمر أبا طلحة الأنصاري لحراسة المجتمعين، وحثهم على العمل. وقال له: «يا أبا طلحة، إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم. فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط، حتى يختاروا رجلاً منهم» وطلب من المقداد بن الأسود أن يختار مكان الاجتماع. وقال له: «إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت، حتى يختاروا رجلاً منهم» ثم طلب من صهيب أن يراقب الاجتماع. وقال له: «صلّ بالناس ثلاثة أيام. وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قَدِمَ، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلاً، وأبي واحد، فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة منهم رجلاً، وثلاثة رجلاً، فحكّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حَكَم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس» ثم طلب منهم أن يتركوا البحث في الخـلافة حتى يموت.
وبعد وفاته ودفنه اجتمع النفر الذين سماهم عمر ما خلا طلحة الذي كان غائباً. ويقال إن اجتماعهم كان في بيت عائشة. ومعهم عبد الله بن عمر. وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم .فلما استقر بهم المجلس قال عبد الرحمن بن عوف: «أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضـلكم؟» يعـني أيـّكم يتخـلى عن حقـه في الخـلافـة، بشـرط أن يُحكّـمه الجميع، ليختار الخليفة من بينهم كما يريد. وبعد أن قال عبد الرحمن بن عوف هذا القول، سكت الجميع، ولم يجبه أحد. فقال عبد الرحمن: أنا أخلع نفسي منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي؛ فإني سمعت رسول الله يقول: «أمين في الأرض أمين في السماء» .فقال الزبير وسعد: قد رضينا. وسكت عليّ. فقال عبد الرحمن: (ما تقول يا أبا الحسن) قال عليّ: (أعطني موثقاً لتؤْثِرَنَّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم، ولا تألو الأُمة). فقال عبد الرحمن: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا مَنْ اخترت لكم، وعَلَيَّ ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم ولا آلو المسلمين» فأخذ منهم ميثاقاً، وأعطاهم مثله. ثم أخذ يستشيرهم واحداً واحداً، قائلاً لكل واحد منهم: إنه لو صُرِف هذا الأمر عنه من كان يرى مِنْ هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ فقالَ عليّ: عثمان. وقال عثمان: عليّ. وقال سعد: عثمان. وقال الزبير: عثمان. ثم راح يسأل أصحاب الرأي في المدينة، ويسأل جميع المسلمين رجالاً ونساءً. ولم يترك رجلاً أو امرأة إلا وسأله عمن يختار مِنْ هؤلاء الرهط. فكان جماعة منهم يأمرون بعثمان، وجماعة يأمرون بعليّ. ووجد رأي الناس موزعاً بين عثمان وعليّ، وأن القرشيين على كل حال كانوا في صف عثمان. وبعد أن انتهى عبد الرحمن مِنْ طوافة بالناس، وخلواته بهم، وعرف رأي الناس رجالاً ونساءً، دعا المسلمين إلى المسجد، ثم صعد المنبر متقلداً سيفه، وعليه عمامته التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وقف وقتاً طويلاً، ثم تكلم، فقال: «أيها الناس إني قد سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إمّا عليّ وإمّا عثمان». ثم التفت إلى عليّ وقال له: «قُمْ إليّ يا عليّ». فقام عليّ، فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: «هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال عليّ: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وعلمي» أي أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله على جهدي من ذلك وعلمي فيهما. أما فعل أبي بكر وعمر فلا أتقيد به، وأجتهد رأيي - فأرسل عبد الرحمن يده. ثم نادى: «قُمْ إليّ يا عثمان». فأخذ بيده وهو في موقف عليّ الذي كان فيه، فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم». فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: «اللهم اسمع واشهد، اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان). وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه. ثم جاء عليّ يشق الناس حتى بايع عثمان. وبذلك تمت البيعة لعثمان..".
فالشورى الإسلامية كل الأمة لها رأي في هذه الشورى بينما الديمقراطية الغربية كانت قلة من الأحرار سواء في عهد الإغريق أو في عهد الرومان إذن عندنا مؤسستين مؤسسة النقباء الاثني عشر، ومؤسسة المهاجرين الأولين، المؤسسة الثالثة هي مجلس شورى من سبعين يجتمع في مسجد النبوة في مكان محدد في أوقات محددة وتعرض عليه قضايا الأمة ومشكلاتها وعندما كتبت حول هذا الموضوع لمحت شخص مثل ابن عبد البر في كتابه "الدرر في اختصار المغازي والسير" يذكر فيه مثلا أن فلان عضو في الاثنى عشر وعضو في السبعين فهذا رأي شخص أعد دراسة عن مجلس الشورى بأن هناك مجلس حقيقي وليس مجموعة من البشر تجمعهم وتسألهم ثم تقوم بفضهم، وقد اجتمعوا عندما فتح المسلمين فارس فسأل عمر ماذا نفعل مع هؤلاء فهم يعبدون النار فهم يعرفون أن اليهود والنصارى أهل كتاب فعرض المشكلة على مجلس الشورى "فوثب عبد الرحمن بن عوف وقال: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: سنوا فيهم سنة أهل الكتاب" إذن كان لدينا مجلس شورى وكان لدينا مؤسسة المهاجرين الأولين ومؤسسة النقباء الإثنى عشر ثلاث مؤسسات دستورية قامت على أساسها الدولة الإسلامية، وعندما تأسست هذه الدولة في السنة الأولي للهجرة وعندما تم تطبيقها وقامت بعد الهجرة كان لها دستور اسمه "الصحيفة" أو الكتاب مصاغ فيه مواد دستورية صياغة دستورية أكتر من خمسين مادة وموجود في كتب التراث وأنا نشرته في كتاب "الإسلام وحقوق الإنسان" ووضعت له شرح كوثيقة من الوثائق الدستورية للدولة الإسلامية ينص الدستور على أن رعية الدولة متعددة الأديان لأن كان هناك يهود في المدينة أدخلهم الرسول كجزء من رعية الدولة وأقول مرة أخرى إن كل الذين كتبوا عن دستور دولة المدينة أخطئوا عندما قالوا أن الرسول عندما هاجر للمدينة أقام معاهدة وموادعة مع اليهود العبرانيين وهذا ليس صحيحًا وعندما نقرأ الدستور الخاص بدولة المدينة نعرف أنه كان في المدينة نوعين من اليهود:
1. يهود عرب تهودوا. وعندما تقرءوا مواد الدستور –ومن الغريب أن الناس تمر عليها هذه المسائل دون أن تنتبه إليها- يقول يهود بني الأوس، يهود بني الخزرج، يهود دوشم... الخ أي القطاعات التي تهودت من القبائل العربية وهؤلاء الذين كانوا يعيشون في المدينة وهؤلاء من أصبحوا جزء من رعية الدولة الإسلامية بنص الدستور وأسلموا بعد ذلك.
2. اليهود العبرانيين وهم بني إسرائيل وهي القبائل الثلاثة بنو قريظة، بنو النضير، بنو قوينقاع هؤلاء لم يكونوا يسكنوا داخل المدينة وإنما كانوا يسكنون في الواحات الزراعية حول المدينة ولذلك عندما خانوا رسول الله في غزوة الخندق ذهب إلى بني قريظة وحاربهم، وعندما فعل مع خيبر في مزارعهم وحصونهم وحاربهم فهؤلاء كانوا موالي لليهود العرب وحلفاء لهم لكن المعاهدة والدستور والصحيفة والكتاب كان بين المسلمين وبين اليهود العرب الذين تهودوا ولذلك فإنهم كانوا يحاربون مع المسلمين ويأخذون جزء من الغنائم مع المسلمين والدستور أقر لليهود دينهم وللمسلمين دينهم... الخ.
إذن نحن لدينا دولة قامت بالبيعة والشورى والانتخاب وقامت على ثلاث مؤسسات دستورية ولكي تعرفوا معنى كلمة دستور يحدث لكم نوع من الدهشة فكلنا نقرأ في غزوة بدر أن الرسول قبل أن يحارب استشار الصحابة فقالوا له: نحن معك "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رس
ومن الذين كتبوا في السنة التشريعية وغير التشريعية الشيخ ابن عاشور( ) -عليه رحمة الله، الشيخ علي الخفيف -عليه رحمة الله- وفي دار نهضة مصر في سلسلة التنوير طبعت ما كتبه الشيخ ابن عاشور والشيخ علي الخفيف، وأعددت دراسة، وكذلك أعد الدكتور محمد سليم العوا دراسة أخرى وأصدرناها في كتيب بعنوان "السنة التشريعية والسنة غير التشريعية" هذا لمن لا يريد أن يقرأ للقرافي وغيره يجد تقسيم أنواع السنة في هذا الموضوع، وأيضًا نشرنا كتيب صغير للشيخ الخضر حسين وكان عالم فاضل عن "السنة والبدع" في نفس السلسلة الخاصة بنهضة مصر وهؤلاء من الممكن أن يعرفوا ما معنى أقسام السنة وأن فيها جزء دين شرح للرسالة للدين الثابت وفيها أشياء أخرى ليست دينًا تتغير بتغير الزمان والمكان وسأضرب أمثلة واقعية على السنة أنها ليست دينًا وليست ملزمة وليست ثابتة وليست خالدة.
نماذج من السنة
الرسول عندما كان يحارب كان يقسم الجيش ميمنة وميسرة وقلب، هل نحن اليوم عندما نحارب نقسم الجيش كتقسيم الرسول له حتى نقول إننا نريد تطبيق السنة. أرى أن ذلك لا يجوز فالأوضاع تغيرت وأسلوب الحروب تغيرت ونوع السلاح المستخدم تغير فبعض الحروب تدار ولا تلتقي فيها الجيوش عن طريق القصف المدفعي أو الصاروخي بعيد المدى، فالرسول كان يقسم الجيش بالطريقة التي تحقق المقصد، أما نحن اليوم فنقسم الجيش تقسيمات جديدة ليس لها علاقة بتقسيمات رسول الله فهذه سنة أي فعل لرسول الله ولكن ليست ملزمة وليست دينًا.
مثال آخر الرسول يقول في حالة الحرب: "من قتل قتيلاً فله سلبه"( ) من قتل شخص يأخذ متعلقاته أما الآن عندما يوقع جندي طائرة فهل يأخذها؟، أو عندما يصيب دبابة هل يأخذها؟ لا يستطيع أحد أن يقول ذلك فهذه من الأمور السياسية والحربية والفروع والمتغيرات التي ليست دينًا ثابتًا وبالتالي ليست جزءًا من الدين الثابت فعندما أقرأ هذا الحديث في كتاب لا أطبقه، وإنما أسأل إمام الوقت الحالي والدولة الحالية عن رأيهما في هذا الموضوع.
حديث آخر: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً، فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ"..( ) فالإسلام كان يُحدث تنمية وكانت الأرض صحراء فكان يشجع الناس على زراعة الأرض، واليوم هل يمكن أن يذهب أحد للصحراء الغربية ليستولي على الأرض بحكم سنة رسول الله ويقول إنه يقوم بتطبيق الحديث؟!.
إذن هناك سنة يمكن تطبيقها بدون سؤال الحاكم موجودة في البخاري ومسلم بدون تطبيق وهي سنة مرتبطة بأصول الدين مثل أن نقول كيف نتوضأ أو كيف نصلي أو كيف نصوم؟ كل هذه سنن عبارة عن دين لا نحتاج فيها أن نستأذن أحد، إنما هناك سنن في الفروع السياسية والمتغيرات التي هي جزء من التاريخ، جزء من الحضارة، جزء من السياسة ولذلك قبل أن نطبقها نسأل الإمام.
السنة والقضاء
القضاء عندما تقرأ السنة النبوية تجد مؤلف اسمه "الأعظمي"( ) جمع "أقضية رسول الله " أي القضايا التي عُرضت على رسول الله وقضى فيها باعتباره قاضي والرسول في حيث: (حديث مرفوع) أنا الْقَاضِي أَبُو الْعَلاءِ الْوَاسِطِيُّ ، ثنا أَبُو زَيْدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَامِرٍ ، بِالْكُوفَةِ، نا أَبُو الطَّيِّبِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازُ الْجُعْفِيُّ ، نا هِلالُ بْنُ الْعَلاءِ ، نا مُحَمَّدُ بْنُ خَضِرٍ الْبَزَّازُ ، نا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اخْتَصَمَ رَجُلانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ".( )
قوله: «ولا يحكم بعلمه» يعني لو تخاصم إليه اثنان، وهو يعلم أن المدعي صادق فيما ادعاه، فهل يحكم بعلمه؟ المؤلف يقول: لا يحكم بعلمه، ولو كان يعلم مثل الشمس أنه صادق؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنما أقضي بنحو ما أسمع. ولم يقل: بنحو ما أعلم، فجعل الحكم مبنياً على الأمور الحسية الظاهرة؛ لئلا يكون القاضي محل تهمة؛ لأنه إذا حكم بعلمه قال الناس: حكم لفلان على فلان، وهو مدعٍ بدون شهود فيتهمونه.
ثم لو فتحنا الباب وقلنا: إن هذا القاضي من أعدل عباد الله ولا يحكم إلا بالحق، يأتي قاضٍ آخر ويحكم بالباطل، ويقول: هذا الذي أعلمه! وهذا ممكن، فلو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فَسدُّ الباب هو الأولى. فإذا تحاكم إليَّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين؛ لأن المدعى عليه جاء عندي البارحة وأقر، فماذا أعمل؟ أحوِّل القضية إلى قاضٍ آخر، وأكون شاهداً.
وظاهر كلام المؤلف أن القاضي لا يحكم بعلمه مطلقاً، ولكن هنا ثلاث مسائل استثناها العلماء، قالوا: إنه يحكم بعلمه فيها: الأولى: عدالة الشهود وجرح الشهود، فإذا كان يعلم عدالة الشاهدين حكم بشهادتهما بدون طلب تزكية، وإذا كان يعلم جرحهما رد شهادتهما بدون جارح؛ لأن هذا ليس حكماً مباشراً حتى يتهم القاضي فيه، وإنما هو حكم بسبب الحكم، أو حكم بالذي ينبني عليه الحكم.
الثانية: ما علمه في مجلس الحكم فإنه يحكم به، مثل أن يتحاكم إليه اثنان، وفي أول الجلسة أقر المدعى عليه بالحق، ثم بعد ذلك أنكر، فيحكم عليه؛ لأنه ما زال في مجلس الحكم، وقد سمع من المدعى عليه الإقرار فوجب عليه أن يحكم به، حتى لو أنكر بعد ذلك ما يقبل.
الثالثة: إذا كان الأمر مشتهراً واضحاً بيناً، يستوي في علمه الخاص والعام، القاضي وغيره، فهنا يحكم بعلمه، مثال ذلك: اشتهر في البلد أن هذا الملْك وَقْفٌ على الفقراء من أزمان طويلة، فجاءت ذرية الواقف، وقالوا: هذا لنا، هذا لأبينا ولجدنا، وكان القاضي يعلم كما يعلم سائر الناس أن هذا الملْك وقف، فهنا يحكم بعلمه؛ لأنه مشتهر والاتهام منتفٍ، ودخول من لا يوثق فيه – أيضاً- منتفٍ"( ) معنى ذلك أن القضاء النبوي ليس وحيًا وليس معصومًا كما هو الحال في القرآن لأنه يقضي بناءً على المدعي والمدعى عليه فمن الممكن أن يكون الشخص كاذب ويغش في مرافعته ولذلك حذره رسول الله لأن القاضي لا يقضي بعلمه، وبالتالي لو أن لديك قضية أو مشكلة بالضبط مثل المشكلة الموجودة في كتاب أقضية الرسول فلا تقل أن الحكم هو الحكم الذي قضى به رسول الله وإنما تسأل قاضي عصرك وزمانك، وكل هذه الأمور ذكرها "القرافي" وذكرها "ولي الله الدهلوي" في موضوع إحياء الأرض الموات، وفي موضوع تنظيم الجيش، وفي كثير من الأمور السياسية، وفي العادات، وفي التقاليد، وفي الجبلة، وفي الطعام، وفي الأزياء، بما في ذلك تربية اللحية فمن يقول إن تربية اللحية من الدين هذا ليس صحيحًا "فأبو جهل" كان لديه لحية. السنة التي هي دين والتي يتميز بها الدين الإسلامي ولا توجد في غير الدين الإسلامي إنما القسيس يربي لحيته والحاخام يربي لحيته وأبو جهل كان مربي لحيته وهذه جزء من كمال الرجولة في مجتمع النبوة حتى الإمام "أحمد بن حنبل" كان يعتبرها جزء من الزينة بالنسبة للإنسان.
إذن هناك أشياء تميز بين ما هو دين ثابت وضع إلهي ثابت وإذا لم تفعله فهو حرام، وبين الأمور التي لها ارتباط بالعادات والتقاليد والأعراف مثل الأزياء والسياسة وما شابه.. فهذه هي معنى السنة وأقسام السنة النبوية وكيف أن السنة النبوية فيها هذا البعد الحضاري.
مصطلح الحضارة
المصطلح الثاني هو مصطلح الحضارة –فقد قلنا البعد الحضاري- وهنا أريد أن أقف معكم لأن هذه النقطة موضع خلط فعندما ترجع إلى أي قاموس أو أي موسوعة لمعرفة معنى الحضارة ستجد أن هناك معاني مختلفة لأن المضامين والمفاهيم الغربية غزت مصطلحاتنا وعقولنا، فالدين معناه لدينا هو وحي إلهي، ولكنهم يعتبرون الدين إفراز للعقل البشري.. نحن نعتبر التوحيد بدأت به الإنسانية مع سيدنا آدم عليه السلام، وهم يعتبرون التوحيد مرحلة من مراحل ارتقاء العقل البشري بعد مرحلة الوثنية.. فكثير من المصطلحات حتى المصطلحات الشائعة تجد أن مضمونها الغربي مختلف عن مضمونها الإسلامي، السياسة عند مكيافيللي( ) في الحضارة الغربية هي "فلسفة القوة والغاية تبرر الوسيلة"، ولكن عندنا مثلما يقول "ابن القيم" "هي التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد" أي أنها مرتبطة بالقيم والأخلاق إذن المضامين الخاصة بالمصطلحات بما في ذلك مصطلح الحضارة هناك من يقول أنها هي المدنية أو أنها هي الثقافة...الخ.
الحضارة في المصطلح الإسلامي -وهذا منهج نتعلمه- فعندما أقوم بتأليف كتاب أو كتابة مقال وأمامي مصطلح من المصطلحات ما هو المنهج الإسلامي والعربي؟ لمعرفة مضمون المصطلح
أولاً أرجع إلى معناه في القرآن؛ لأن القرآن هو كتاب الأمة الأول مثل كتاب العربية الأول فالنحو يقاس على القرآن ولا يقاس القرآن على النحو... فأرجع لمعنى المصطلح في القرآن ومعنى المصطلح في السنة وفي الشعر العربي وفي التراث اللغوي العربي هذا هو المنهج العلمي لعلماء الإسلام كيف يفسر المصطلح، وكيف تتعامل مع المصطلح؟.
بالنسبة لمصطلح الحضارة بهذا المنهج ما هو معناه؟ نرى في القرآن الحديث عن ﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها هذا المصطلح في القرآن الكريم، إذن الحضارة من الحضور من الاستقرار ولذلك فإن الحضارة المقابل لها هي البداوة لأن البداوة فيها ترحال فلا يوجد تراكم معرفي وبناء معرفي مع الترحال فالشاعر أو القبيلة تقيم هنا اليوم وغدًا تذهب بحثًا عن المرعى تنتقل من مكان إلى مكان، فالبداوة من الممكن أن يكون فيها ثقافة ولذلك فإن الشعراء في الجاهلية وفي البداية كانوا مثقفين ولديهم حكمة وكانوا يكتبون أشياء عظيمة... عندما نقرأ المعلقات وغيرها. ولكن لم يكن لديهم حضارة لأنهم لا يملكون الاستقرار الذي يقيم بناء معرفي وتراكم معرفي.
إذن الحضارة لابد أن يكون فيها ثقافة ولابد أن يكون فيها حضور واستقرار. وتعرفون أن مصر منذ أيام محمد علي كان هناك ما يسمى بـ "توطين البدو" فالبدو كانوا يستقرون في القرية، فالقرية من القرار والاستقرار. فالحضور ﴿الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ إذن يلزم للبناء الحضاري ولبناء حضارة أن يكون لدينا ثقافة ومدنية واستقرار.
ما هو الفرق بين الثقافة وما بين المدنية؟ الثقافة هي كل ما يعمر النفس الإنسانية. المدنية هي كل ما يعمر الواقع المادي فلدينا علوم مدنية من زراعة وصناعة وتجارة، كل الأمور التي تزين وتعمر الواقع الذي نعيش فيه، أما الثقافة فهي كل العلوم والآداب والفنون التي تعمر الوجدان والقلب والنفس الإنسانية. والمدنية والثقافة عندما يتوفرا في مجتمع مستقر تكون الحضارة قد تكونت بكل أبعادها وبكل ميادينها.
نحن الآن عرفنا السنة وأقسامها وعرفنا معنى مصطلح الحضارة.
إنشاء الدولة في عهد النبي
وكما قلت فإنه دون دولة لا يمكن أن يكون هناك حضارة ولذلك فإن الدولة أصبحت جزء من السنة النبوية أي أن البعد الحضاري للسنة النبوية بدأ بتكوين الدولة، وكما قلت إنه في المرحلة المكية كان الجزء الهام هو بناء الشخصية ولذلك فإن الصناعة الثقيلة في المرحلة المكية كانت هي صناعة الإنسان، ولذا أول مؤسسة في المرحلة المكية كانت هي دار الأرقم ابن أبي الأرقم -مؤسسة تربوية- ولكن قبل الهجرة تأسست الدولة، والجزء الخاص بتأسيس الدولة يمثل عامود أساسي في بناء الحضارة الإسلامية وللبعد الحضاري للسنة النبوية وسأقف حولها قليلاً لأني سأقول كلامًا ليس إدعاءً ولكن هناك أشياء جديدة فتح الله عليّ بها واكتشفتها ولم يتحدث فيها غيرنا بشكل واضح أو قد يكون هناك من تحدث ولكني لم أقرأ عنها.
الرسول عندما حوصر في مكة وظل ثلاثة عشر سنة كل من آمن به وصمدوا أقل من مئة شخص -لكي نعرف مدى الجهد الذي حدث في تأسيس وتثبيت النعمة التي ننعم بها الآن، وأصبحنا الآن مليار ونصف مليار بالرغم من أننا غثاء كغثاء السيل- وسأضرب مثلاً عندما استأذن "عمرو بن العاص" "عمر بن الخطاب" في فتح مصر وكان عمر بن الخطاب مترددًا وليس سبب التردد مثل ما ذكر المؤرخون حتى لا يكون هناك فاصل بحري بين الجيش وبين العاصمة هذا ليس هو السبب وإنما لأن الرومان لديهم في مصر مائة وعشرين ألف جندي بِعُدد لا نظير لها وحصون ورائها حصون وكانت هذه هي المعركة الفاصلة ولذلك فإن المسلمين قاموا بفتح الشام والعراق والخليج وفارس في عام واحد بينما فتح مصر استغرق خمس سنوات لأن هرقل أدرك أن هذه هي المعركة الفاصلة فإذا سقطت الإسكندرية ضاع مُلّك الروم فهذه كانت العاصمة لهم.
عمرو بن العاص عندما استأذن عمر كان عمر بن الخطاب مترددًا لأن المعركة ليست سهلة ولكنه أشار على عمرو بن العاص بأن يأخذ أربعة آلاف من الجنود ويتوكل على الله ودار هذا الحديث في الشام أثناء فتح مدينة القدس، وأشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه سوف يشاور الصحابة عند رجوعه للمدينة، وعلى ضوء تلك الشورى سيرسل له خطاب إما أن يأمره فيه بالرجوع قبل أن يدخل مصر، وإذا كان دخل مصر فليتوكل على الله.. فعندما جاء عمرو بن العاص بجيش قوامه أربعة آلاف ودخل معركة الفرمة( ) وغيرها من المعارك إلى أن وصل إلى بلبيس ثم عندما وصل إلى حصن بابليون في مصر القديمة وجد أمامه قوات وحصون كبيرة فأرسل لعمر بن الخطاب يطلب منه المدد فرد عمر بن الخطاب بأنه سيرسل له أربعة آلاف آخرين وسيرسل أربعة من الصحابة كل منهم بألف فيكون المجموع اثنا عشر ألف - فالعدد ليس معيار-
أعود لموضوع الدولة ونشأتها، قبل الهجرة من مكة إلى المدينة فتح الله على رسوله بعد عام الحزن –وهو العام الثالث قبل الهجرة الذي توفيت فيه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وأسماه المسلمون عام الحزن أي حداد سنة كاملة من أجل السيدة خديجة وهذا يبين لنا دور المرأة في الإسلام- فالعام الثالث كان عام الحزن وأراد الله –سبحانه وتعالى- أن يفتح أمام رسول الله فتوحات لا حدود لها أولاً في العام الذي يليه كان الإسراء والمعراج وفتح أمامه أبواب السماء، وفي نفس العام جاء الأوس والخزرج لأداء فريضة الحج وقابلهم الرسول وبايعوه على الإسلام في بيعة العقبة الأولى وطلبوا منه أن يرسل معهم الصحابي مصعب بن عمير ليعلمهم القرآن الكريم. واجتهد مصعب بن عمير اجتهاداً كبيراً في نشر الدعوة الإسلامية ولذلك سمي بأول سفير في الإسلام و بدأ الإسلام ينتشر في المدينة فأسلم أبناء عمرو بن الجموح وأسلم بعدها عمرو بن الجموح ثم أسلم الطفيل بن عمرو وهو سيد قبيلة دوس وذهب الطفيل يدعو في قومه حتى أسلمت قبيلة دوس جميعاً وأتى بهم يبايعون الرسول وأنتشر الإسلام انتشار هائل في هذا العام.
وفي العام التالي في بيعة العقبة الثانية في العام الثالث عشر من الدعوة الإسلامية أتى من المدينة ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من قبيلتي الأوس والخزرج فجلسوا مع الرسول واتفقوا مع الرسول على تأييده وبايعوه على أن يحموه كأبنائهم وإخوانهم ولهم الجنة، ودعوا الرسول ليلحق بهم في يثرب، واتفقوا معه على الدولة، ويقع مكان تلك البيعتين في المكان الذي نرمي فيه الجمرات، ولذلك فقد أعددت بحثًا عن "فقه المكان" وكيف نحن بحاجة لمعرفة معاني الأماكن التي نذهب إليها ونتذكر من خلالها كيف ضحى الرسول في سبيل نشر الدعوة فنحن نذهب مثل السائحين ولكن أن تعرف ما هي العقبة التي ذهبت عندها لرمي الجمار وما الذي حدث فيها؟ وهو عقد تأسيس الدولة الإسلامية الأولى وحضر هذه الجمعية العمومية خمسة وسبعون شخصًا من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتين وهذا يعني أن المرأة مارست أعلى مستويات الولاية السياسية قبل أربعة عشر قرنًا وليس كما يثار حالياً من بعض الناس في هذه الأيام حول موضوع هل تنتخب المرأة أم لا تنتخب؟ فبداية عقد تأسيس الدولة الإسلامية من تاريخ بيعة العقبة الثانية فقد اتفقوا مع الرسول كما قلنا سابقاً أن يهاجر إليهم ويحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وأموالهم و... الخ.
فهذه البيعة تمثل عقد اجتماعي حقيقي ليس متوهماً ويتقدم على ما كتبه خاصة الفرنسيين مثل "مونتسكيه" عن العقد الاجتماعي فهذه عقود متوهمة يتصورون فيها أن المحكوم اتفق مع الحاكم وتعاقد معه على إقامة دولة، ولكن نحن لدنيا العقد عقد حقيقي من خلال أشخاص التقوا وناقشوا وعقدوا عقد حقيقي وعندما أتوا للعقد والمبايعة قال لهم الرسول: "اختاروا منكم اثني عشر نقيبًا" بالانتخاب وليس مثلما تدعي الآن "كوندليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش، أنها سوف تعلمنا الديمقراطية وآليات الانتخابات بل إنه قبل أربعة عشر قرنًا تأسست الدولة بالانتخاب وليس فقط بالانتخاب وإنما بالمؤسسة وهذه هي النقطة التي أريد لفت النظر إليها... فالدولة الإسلامية التي هي البعد الحضاري للسنة النبوية دولة مؤسسات بُنيت على ثلاث مؤسسات -وبعضكم قد يرى هذا أنه حديث جديد- هناك ثلاث مؤسسات المؤسسة التي ولدت في بيعة العقبة التي هي من القبائل الاثنى عشر، والتي تسمى بالنقباء وهم:
1. أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ
2. وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ
3. وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ , وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ
4. رَافِعُ بْنُ مَالِكِ
5. وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ
6. عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ
7. وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
8. الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضَلَةَ
9. عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي
10. قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ
11. أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ
12. عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ
فهذه مؤسسة دستورية انتُخبت ونابت عن الآخرين في عقد تأسيس الدولة ومبايعة رسول الله ، وظلت الدولة -وأحيانًا في بعض الكتب التاريخ نجد كلمات تغيب عن الناس ولا تدركها مثل أن يقال أن فلان عضو في الإثنى عشر وعضو في السبعين وسأفسر لكم موضوع السبعين وهي مؤسسة ثالثة... إذن لدينا مؤسسة ولدت في بيعة العقبة في السنة الأولى قبل الهجرة، والمؤسسة الثانية هي المهاجرين الأولين (العشرة) وللأسف الشديد في كتب السنة وفي كتب التراث اختزلوا هذه المؤسسة في العشرة المبشرين بالجنة. نعم هم مبشرين بالجنة ولكن هل التبشير بالجنة وظيفة فهل يكون لدينا مؤسسة فيها عشرة نطلق عليهم المبشرين بالجنة بالرغم من أن القرآن يقول أن كل المسلمين مبشرين بالجنة ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي﴾ تبحث عن مصطلح البشارة والتبشير في القرآن تجد أن كل المؤمنين مبشرين بالجنة فلماذا اقتصر التبشير على العشرة فالعشرة مبشرين بالجنة ولكنها ليست وظيفتهم وليست هي الصفة التي جعلتهم مؤسسة تسمى باسم المهاجرين الأولين هؤلاء العشرة منهم أربعة الخلفاء الراشدين ثم أبو عبيدة بن الجراح (أمين الأمة) وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل هؤلاء العشرة اختزلت وظيفتهم وأسموهم المبشرين بالجنة هؤلاء العشرة اسمهم المهاجرين الأولين ماذا يعني ذلك؟ هذا ما يحدد وظيفتهم هم أولاً مهاجرين أي قرشيين كانوا قيادات بطون قريش في مكة وكانوا زعماء حتى قبل الإسلام فأبو بكر مثلاً كان مختص بالأنساب، وعمر كان مختص بالسفارات وغيرهم فكان لهم قيادة وكل منهم يمثل وظيفة بطن من بطون قريش وأنتم تعرفون أن القبيلة توزع إلى بطون وأفخاذ.. إذن هم مهاجرين لأنهم قرشيين ومهاجرين أولين لأنهم أول الناس دخولاً في الإسلام ولكي تعرفوا معنى المؤسسة فقد كانوا يعتبرون مثل الوزراء في حكومة رسول الله وكان لهم اختصاصات فعندما بُني مسجد المدينة وهذا المسجد كان للقيادة ودار للتدريب والحرب والذكر والفكر والتعليم وكل شيء فقد كان هذا المسجد مكانًا للحكومة ولرئاسة الجمهورية والعشرة المهاجرين الأولين منازلهم كانت تحيط بالمسجد ولبيوتهم أبواب تفتح في المسجد وهي خصيصة ليست لأحد آخر لكي نعرف ما هو معنى أنهم المهاجرين الأولين وأن هذه مؤسسة دستورية وسأتحدث عن اختصاصاتها.
اختصاصات المهاجرين الأوائل والأنصار
في "أسد الغابة" عبارة يتحدث فيها عن هؤلاء العشرة يقول "إنهم كانوا في الصلاة يقفون خلف رسول الله وفي الحرب يقفون أمام رسول الله " فهذه دولة مؤسسات فنحن اليوم نتحدث عن مؤسسة من المؤسسات.
كيفية اختيار الخلفاء الراشدين
عندما يأتي الحديث عن السياسة والدولة والخلافة نجد أن كل الذين كتبوا عن دولة الخلافة الراشدة أخطئوا عندما اجتمعوا على أن كل خليفة قد تولى بطريقة خاصة مختلفة عن الآخر فطريقة تولية خليفة رسول الله أبو بكر تختلف عن طريقة تولية عمر بن الخطاب وتختلف عن طريقة تولية عثمان بن عفان وكذلك عن طريقة تولية عليّ بن أبي طالب، وهذا ليس صحيحًا لأنه كان هناك دستور ونظام وعلاقة بين المؤسستين النقباء الاثنى عشر، والمهاجرين الأولين، فعندما توفي رسول الله سمع أبو بكر وعمر والمهاجرين الأولين أن الأنصار اجتمعوا في ثقيفة بني ساعدة لكي يختاروا منهم خليفة لرسول الله ليأخذوها باعتبارهم أهل المدينة فذهب ثلاثة من المهاجرين الأولين من العشرة هم (أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة) وورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال "أنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله أن عليًا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله وتخلف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان، فذكرا لنا الذي صنع القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟
فقلت: نريد إخواننا من الأنصار.
فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.
فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟
قالوا: سعد بن عبادة.
فقلت: ماله؟
قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفَّت دافة منكم (أي المهاجرون) تريدون أن تختزلونا (أي الأنصار) من أصلنا وتحضنونا من الأمر (أي الخلافة).
فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحكم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حتى سكت.
فقال: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم.
وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة ابن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغير نفسي عند الموت.
فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
فقلت لمالك: ما يعني: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟
قال: كأنه يقول: أنا داهيتها.
قال: فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الاختلاف.
فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعدا.
فقلت: قتل الله سعداً.
قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع أميراً عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه تغرة أن يقتلا.
قال مالك: فأخبرني ابن شهاب عن عروة أن الرجلين اللذين لقياهما: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي.
قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذي قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب: هو الحباب بن المنذر.
وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزهري به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية عن عمرو، ثنا زائدة، ثنا عاصم، وحدثني حسين بن علي عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - هو: ابن مسعود - قال: لما قبض رسول الله قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر، فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر. ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، وهناد بن السري عن حسين بن علي الجعفي، عن زائدة به. ورواه علي بن المديني عن حسين بن علي، وقال: صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم. وقد رواه النسائي أيضا من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم ابن أبي هند، عن نبيط بن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله.
وقد روي عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر، وجاء من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمر أنه قال: قلت: يا معشر المسلمين إن أولى الناس بأمر النبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السباق المسن، ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع الناس. وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد فذكر نحوا من هذه القصة، وسمى هذا الرجل الذي بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال: هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير.
اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله وأبو بكر رضي الله عنه في صائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا، مات محمد ورب الكعبة، فذكر الحديث.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتعادان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله قال: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا، سلكت وادي الأنصار» ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم».
فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء، وأنتم الأمراء.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عباس، ثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذي عضوان العبسي عن عبد الملك بن عمير اللخمي، عن رافع الطائي رفيق أبي بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل قال: وسألته عما قيل في بيعتهم.
فقال: وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به، وما كلم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله في مرضه، فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة.
وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا: أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفا أن يقع فتنة أربى من تركه قبولها، رضي الله عنه وأرضاه.
قلت: كان هذا في بقية يوم الاثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع الناس في المسجد، فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله تسليما.
قال البخاري: أنبأنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام عن معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله ، وأبو بكر صامت لا يتكلم.
قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به، هدي محمدًا وإن أبا بكر صاحب رسول الله وثاني اثنين، وأنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه، وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر.
قال الزهري عن أنس بن مالك سمعت عمر يقول يومئذ لأبي بكر: اصعد المنبر!فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إني قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا عن رأيي وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهدها إلي رسول الله ، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا يقول: يكون آخرنا وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة"( ).
"فتكلم أبو بكر، فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني؛ وإن أسأت فقوموني؛ الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له، وفي يده الدرة، وما معه غيري، قال: وهو يحدث نفسه، ويضرب وحشي قدمه بدرته.
قال: إذ التفت إلي، فقال: يا بن عباس، هل تدري ما كان حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، أنت أعلم؛ قال: فإنه والله، إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت"( ) فقد حسم هنا أبو بكر الخلاف بطريقة دستورية من خلال توزيع الاختصاصات بين المؤسستين وهنا أُنبه إلى فكرة المؤسسية في الدولة الإسلامية عندما قال: "منا الأمراء، ومنكم الوزراء" فالإمارة ورئاسة الدولة والخلافة في المهاجرين الأولين في العشرة، أما الوزارة والمعاونة فالوزير هو المعاون والمآزر هذا في المؤسسة الثانية (النقباء الإثني عشر).
ما الذي حدث عندما اتفقوا على المبدأ؟ اثنين من العشرة وهم: عمر وأبو عبيدة بن الجراح رشحوا الثالث وهو أبو بكر ثم جُمعت له البيعة العامة بعد ذلك... إذن طريقة تولي الخلافة التي تظهر أن كل الخلفاء ولوا بنفس الطريقة الدستورية وهي أن الترشيح يأتي من القيادة (العشرة) تقوم بترشيح الخليفة ثم تُجمع له البيعة، عندما حضرت أبو بكر الوفاة جمع العشرة واتفقوا على عمر وكتبوا كتاباً وبعدما توفى أبو بكر أُعلن الكتاب وجُمعت لهم البيعة العامة، وعندما طُعن عمر جمع بقية العشرة وهم ستة (من يسموا بأهل الشورى) هم من سينتخبوا الخليفة الذي سيأتي بعد عمر وعندما وجدهم ستة بدلاً من عشرة أضاف إليهم ابنه عبد الله بن عمر بحيث يكون له الرأي وليس السلطة –وهذا وضع دستوري- فهو ليس عضو في المؤسسة ولذلك له الرأي ولكنه وقت التصويت لا يكون له صوت لأنه ليس عضوًا في المؤسسة فاختاروا عثمان بن عفان بنفس الطريقة التي تم بها اختيار أبو بكر واختيار عمر بها، وعندما حدثت الثورة على عثمان وجاؤا الثوار لمبايعة عليّ بن أبي طالب قال: "هذا ليس لكم، هذا للمهاجرين الأولين" وقل عدد الأعضاء في الهيئة فبعضهم اعتزل الفتنة وبعضهم توفى فلم تحدث البيعة لعليّ إلا عندما انضم لهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله –بقايا الهيئة- فبايعوا عليّ وبعدما بايعوا عليّ جُمعت له البيعة العامة والإمام عليّ عندما وجد الهيئة الدستورية اقتصرت على عددٍ محدود عنّ له أن يوسع عضوية الهيئة فكيف يوسعها؟ اقترح إضافة بقايا البدريين الذي حضروا غزوة بدر إلى هذه الهيئة لكن جاءت أحداث الفتنة فلم تمكنه من هذا الموضوع.
رأيتم كيف تم تولية الخلافة الراشدة فجميع الخلفاء الأربعة تولوا بنفس الطريقة الدستورية من خلال اللجنة المركزية (العشرة) ترشح ثم يُتفق على الخليفة ثم تُجمع له البيعة ولاحظتم أيضاً أن الترشيح لا يكون نهائي إلا إذا بايعت الأمة فعندما طُعن عمر وكانوا يبحثون عن من يكون الخليفة –وهذا يُبين الفرق بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية فالديمقراطية الغربية كانت في أثينا الأحرار الفرسان الملاك الأشراف قلة يجتمعوا في ميدان هم من يقرروا وهم من لهم الحقوق، فعمر بن الخطاب لما طُعِن طعنته التي مات منها، أقبل عليه المسلمون، وطلبوا منه أن يستخلف، فقال: «مَنْ أستخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إنه أمين هذه الأُمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيَّك يقول: «إن سالماً شديد الحب لله» فقال له أحد المسلمين: استخلف ابنك عبد الله. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا. ويحك! كيف أستخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها لأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فإنّا قد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يُحاسب منهم رجل واحد، يُسأل عن أمر أُمة محمد. أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر، إني لسعيد»، فخرج المسلمون من عنده وتركوه يفكر في الأمر. ثم عادوا إليه مرة أخرى، وسألوه أن يستخلف، حرصاً على مصلحة المـسـلمـين. فقـال لهم: «عليكم هـؤلاء الرهـط، الذين مات رسـول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال فيهم: إنهم مِـنْ أهل الجـنـة: عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وسـعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عـوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله. ويكون معهم عبد الله بن عمر ولكن له الرأي ولا يكون له من الأمر شيء. وقد أوصـاهم عمر أن ينتخبوا خليفة. وضـرب لهم أجلاً قدره ثلاثة أيام. وقال لهم بعد حديث طويل: فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام. ولـيُصـلّ بالناس صُهيب. ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم» ثم عيّن عمر أبا طلحة الأنصاري لحراسة المجتمعين، وحثهم على العمل. وقال له: «يا أبا طلحة، إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم. فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط، حتى يختاروا رجلاً منهم» وطلب من المقداد بن الأسود أن يختار مكان الاجتماع. وقال له: «إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت، حتى يختاروا رجلاً منهم» ثم طلب من صهيب أن يراقب الاجتماع. وقال له: «صلّ بالناس ثلاثة أيام. وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قَدِمَ، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلاً، وأبي واحد، فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة، فرضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة منهم رجلاً، وثلاثة رجلاً، فحكّموا عبد الله بن عمر، فأيّ الفريقين حَكَم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين، إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس» ثم طلب منهم أن يتركوا البحث في الخـلافة حتى يموت.
وبعد وفاته ودفنه اجتمع النفر الذين سماهم عمر ما خلا طلحة الذي كان غائباً. ويقال إن اجتماعهم كان في بيت عائشة. ومعهم عبد الله بن عمر. وأمروا أبا طلحة الأنصاري أن يحجبهم .فلما استقر بهم المجلس قال عبد الرحمن بن عوف: «أيّكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضـلكم؟» يعـني أيـّكم يتخـلى عن حقـه في الخـلافـة، بشـرط أن يُحكّـمه الجميع، ليختار الخليفة من بينهم كما يريد. وبعد أن قال عبد الرحمن بن عوف هذا القول، سكت الجميع، ولم يجبه أحد. فقال عبد الرحمن: أنا أخلع نفسي منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي؛ فإني سمعت رسول الله يقول: «أمين في الأرض أمين في السماء» .فقال الزبير وسعد: قد رضينا. وسكت عليّ. فقال عبد الرحمن: (ما تقول يا أبا الحسن) قال عليّ: (أعطني موثقاً لتؤْثِرَنَّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم، ولا تألو الأُمة). فقال عبد الرحمن: «أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدّل وغيّر، وأن ترضوا مَنْ اخترت لكم، وعَلَيَّ ميثاق الله أن لا أخصّ ذا رحم ولا آلو المسلمين» فأخذ منهم ميثاقاً، وأعطاهم مثله. ثم أخذ يستشيرهم واحداً واحداً، قائلاً لكل واحد منهم: إنه لو صُرِف هذا الأمر عنه من كان يرى مِنْ هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ فقالَ عليّ: عثمان. وقال عثمان: عليّ. وقال سعد: عثمان. وقال الزبير: عثمان. ثم راح يسأل أصحاب الرأي في المدينة، ويسأل جميع المسلمين رجالاً ونساءً. ولم يترك رجلاً أو امرأة إلا وسأله عمن يختار مِنْ هؤلاء الرهط. فكان جماعة منهم يأمرون بعثمان، وجماعة يأمرون بعليّ. ووجد رأي الناس موزعاً بين عثمان وعليّ، وأن القرشيين على كل حال كانوا في صف عثمان. وبعد أن انتهى عبد الرحمن مِنْ طوافة بالناس، وخلواته بهم، وعرف رأي الناس رجالاً ونساءً، دعا المسلمين إلى المسجد، ثم صعد المنبر متقلداً سيفه، وعليه عمامته التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وقف وقتاً طويلاً، ثم تكلم، فقال: «أيها الناس إني قد سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إمّا عليّ وإمّا عثمان». ثم التفت إلى عليّ وقال له: «قُمْ إليّ يا عليّ». فقام عليّ، فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: «هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال عليّ: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وعلمي» أي أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله على جهدي من ذلك وعلمي فيهما. أما فعل أبي بكر وعمر فلا أتقيد به، وأجتهد رأيي - فأرسل عبد الرحمن يده. ثم نادى: «قُمْ إليّ يا عثمان». فأخذ بيده وهو في موقف عليّ الذي كان فيه، فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم». فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: «اللهم اسمع واشهد، اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان). وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه. ثم جاء عليّ يشق الناس حتى بايع عثمان. وبذلك تمت البيعة لعثمان..".
فالشورى الإسلامية كل الأمة لها رأي في هذه الشورى بينما الديمقراطية الغربية كانت قلة من الأحرار سواء في عهد الإغريق أو في عهد الرومان إذن عندنا مؤسستين مؤسسة النقباء الاثني عشر، ومؤسسة المهاجرين الأولين، المؤسسة الثالثة هي مجلس شورى من سبعين يجتمع في مسجد النبوة في مكان محدد في أوقات محددة وتعرض عليه قضايا الأمة ومشكلاتها وعندما كتبت حول هذا الموضوع لمحت شخص مثل ابن عبد البر في كتابه "الدرر في اختصار المغازي والسير" يذكر فيه مثلا أن فلان عضو في الاثنى عشر وعضو في السبعين فهذا رأي شخص أعد دراسة عن مجلس الشورى بأن هناك مجلس حقيقي وليس مجموعة من البشر تجمعهم وتسألهم ثم تقوم بفضهم، وقد اجتمعوا عندما فتح المسلمين فارس فسأل عمر ماذا نفعل مع هؤلاء فهم يعبدون النار فهم يعرفون أن اليهود والنصارى أهل كتاب فعرض المشكلة على مجلس الشورى "فوثب عبد الرحمن بن عوف وقال: أشهد أني سمعت رسول الله يقول: سنوا فيهم سنة أهل الكتاب" إذن كان لدينا مجلس شورى وكان لدينا مؤسسة المهاجرين الأولين ومؤسسة النقباء الإثنى عشر ثلاث مؤسسات دستورية قامت على أساسها الدولة الإسلامية، وعندما تأسست هذه الدولة في السنة الأولي للهجرة وعندما تم تطبيقها وقامت بعد الهجرة كان لها دستور اسمه "الصحيفة" أو الكتاب مصاغ فيه مواد دستورية صياغة دستورية أكتر من خمسين مادة وموجود في كتب التراث وأنا نشرته في كتاب "الإسلام وحقوق الإنسان" ووضعت له شرح كوثيقة من الوثائق الدستورية للدولة الإسلامية ينص الدستور على أن رعية الدولة متعددة الأديان لأن كان هناك يهود في المدينة أدخلهم الرسول كجزء من رعية الدولة وأقول مرة أخرى إن كل الذين كتبوا عن دستور دولة المدينة أخطئوا عندما قالوا أن الرسول عندما هاجر للمدينة أقام معاهدة وموادعة مع اليهود العبرانيين وهذا ليس صحيحًا وعندما نقرأ الدستور الخاص بدولة المدينة نعرف أنه كان في المدينة نوعين من اليهود:
1. يهود عرب تهودوا. وعندما تقرءوا مواد الدستور –ومن الغريب أن الناس تمر عليها هذه المسائل دون أن تنتبه إليها- يقول يهود بني الأوس، يهود بني الخزرج، يهود دوشم... الخ أي القطاعات التي تهودت من القبائل العربية وهؤلاء الذين كانوا يعيشون في المدينة وهؤلاء من أصبحوا جزء من رعية الدولة الإسلامية بنص الدستور وأسلموا بعد ذلك.
2. اليهود العبرانيين وهم بني إسرائيل وهي القبائل الثلاثة بنو قريظة، بنو النضير، بنو قوينقاع هؤلاء لم يكونوا يسكنوا داخل المدينة وإنما كانوا يسكنون في الواحات الزراعية حول المدينة ولذلك عندما خانوا رسول الله في غزوة الخندق ذهب إلى بني قريظة وحاربهم، وعندما فعل مع خيبر في مزارعهم وحصونهم وحاربهم فهؤلاء كانوا موالي لليهود العرب وحلفاء لهم لكن المعاهدة والدستور والصحيفة والكتاب كان بين المسلمين وبين اليهود العرب الذين تهودوا ولذلك فإنهم كانوا يحاربون مع المسلمين ويأخذون جزء من الغنائم مع المسلمين والدستور أقر لليهود دينهم وللمسلمين دينهم... الخ.
إذن نحن لدينا دولة قامت بالبيعة والشورى والانتخاب وقامت على ثلاث مؤسسات دستورية ولكي تعرفوا معنى كلمة دستور يحدث لكم نوع من الدهشة فكلنا نقرأ في غزوة بدر أن الرسول قبل أن يحارب استشار الصحابة فقالوا له: نحن معك "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رس
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 2)
( ...عضّوا عليها بالنواجذ ) اي السنّة
سلسبيل- عضو مشارك
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 19/03/2011
العـــــمـــــر : 42
عـــدد المساهمـــات : 89
الـمــــــــــــزاج : خفيف
كمال- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 1127
الـمــــــــــــزاج : دائما احسن
رد: البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 2)
مشكورة نجمتنا على الموضوع المتميز ، فالسنة النبوية هي منهجنا و مخلّصنا من مختلف المشاكل
و نجاحنا أو فشلنا مرتبطان بمدى تمسكنا بها ..
و نجاحنا أو فشلنا مرتبطان بمدى تمسكنا بها ..
مواضيع مماثلة
» البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 1)
» البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 3)
» الشيعة وموقفهم من السنة _ الدفاع عن السنة النبوية _
» السيرة النبوية العطرة
» (مقتطفات من السيرة النبوية)
» البعد الحضاري في السنة النبوية (الجزء 3)
» الشيعة وموقفهم من السنة _ الدفاع عن السنة النبوية _
» السيرة النبوية العطرة
» (مقتطفات من السيرة النبوية)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2016, 19:32 من طرف أبو إلياس
» الله هو الغنيُّ المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:29 من طرف أبو إلياس
» صفة من صفات أهل الإسلام
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:27 من طرف أبو إلياس
» آداب الإنترنت: فنون المعاتبة .. ومعالجة الأخطاء
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:26 من طرف أبو إلياس
» مركز اللغات بجامعة المدينة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 18:35 من طرف أبو إلياس
» مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 00:34 من طرف Nassima Tlemcen
» aidez-moi vite svp
الثلاثاء 12 يناير 2016, 16:30 من طرف أبو إلياس
» حوليات وزارة التربية 2012 في العلوم الطبيعية
الجمعة 04 ديسمبر 2015, 13:04 من طرف lynda2013
» لمـــــــــــــــــــاذا تبـــــــكي النّســـــــــــــــــــاء
الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 18:46 من طرف أبو إلياس