صاحبة قلل الزّيت

سألني بعض الإخوة الأعضاء مشكورين بأن أزيدهم قصصا وها أنا ذي ألبّي سعيدة مبتهجة. ولمّا كان الموسم في بني ورثيلان جنيَ زيتون، فإليكم ما يناسبه متمنّية لكم قراءة ممتعة:


صاحِبَةُ قُلَلِ الزّيْتِ
قَالَتْ جَدَّتِي:
- أَعِيرِينِي بُنَيَّةُ أُذُنَكِ أُلْقِ فِيهَا بَعْضَ مَثَلٍ عَنِ الْكَرَمِ والجُودِ وأَنْقُشْ فِي تَجَاوِيفِهاَ جُمْلَةَ عِظَاتٍ عَنِ الصَّدَقَةِ والإِحْسَانِ. فَأَنْتُمْ، جِيلَ الْيَوْمِ، غَلَبَ عَلَى أَصْغَريْكُمُ الإِقْتَارُ وأمْسَكْتُمْ أَيْدِيَكُمْ إِلَى جُيُوبِكُم بَعْدَ أَنِ اِسْتَبَدَّتْ بِجَوَارِحِكُمُ الْحِسَابَاتُ المُدَوِّخَةُ وحُبُّ الْمَنْفَعَةِ والإغْناءِ.
أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَكُنْ مِثْلَكُمْ وقَدْ عَلِمتِ حُبِّيَ الْفُقَرَاءَ والْمَسَاكِينَ حَتَّى إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَبْخَلُ عَلَيْهِم بِشَيْءٍ اِسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ رَاحَةُ كَفِّي.
لَشَدَّةِ مَا كُنْتُ وَهَّابَةً مُتصدِّقةً، ضَجِرَ مِنِّي جَدُّكِ وَسَئِمَ. واتُّفِقَ أَنْ صَادَفَ زَمِيلَهُ الْقَاضِيَ ابْنَ الْفَقُّونِ فِي مَحْكَمَةِ بُوقَاعَةَ فَشَكَا إِلَيْهِ إفْسادِيَ وقَالَ لَهُ بِالْكَلِمَةِ هَتِهِ:
- إنَّ لِي امْرَأَةً مِتْلاَفةً مُضَيِّعةً وَقَدْ أَخْلَتْ مَا فِي الدَّارِ عَلَى الْغَادِي والرَّائِحِ فَمَا حِيلَتِي مَعَهَا؟
فَأَجَابَهُ الْقَاضِي ابْنُ الْفَقُّونِ حَبَاهُمَا اللهُ بِغُفْرَانِهِ كِليْهِمَا:
- اِسْمَعْ يَا شَيْخُ عَبْدَ الْكَرِيمِ!…نِعْمَ الزَّوْجُ عِنْدَكَ!… أَمْسِكْ مَا بِيَمِينِكَ ودَعْهَا وشَأْنَهَا لاَ تُقْلِقْهَا وإِنِّي ضَارِبٌ لَكَ مَثَلاً يُغْنِيكَ عَنِ التَّسَاؤُلِ الْكَثِيرِ ومُقْنِعُكَ بِسَدادِ نُصْحِي ورَشَادِي.
بَيْنَ جِبَالِ الزِّوَاوَةِ وفِي قَرْيَةِ عَيْنِ الْحَمَّامِ، كَانَتْ تُقِيمُ جَدَّتِي عِيشَةً بَسِيطَةً هَنِيَّةً ولَقَدْ كَانَتْ عَجُوزاً تَقِيَّةً، ذَاتَ مَعْرُوفٍ وَفِيرٍ. وَكَانَ لِجَدِّي مِعْصَرَةُ زَيْتٍ كَمَا هُوَ سَائِرٌ فِي بِلاَدِ الْقَبَائِلِ فَحَصَلَ مَوْسِمُ الزَّيْتُونِ فَعَصَرَ الْحَبَّ فَمَلأَ الخُدَّامُ أَزْيارَ الزَّيْتِ والقُلَلَ إِلَى الأَفْوَاهِ بِالسَّائِلِ الدُّهْنِيِّ الصَّافِي ثُمَّ رَتَّبُوهَا فِي الْمَخْزَنِ عَوْلاً لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.
عَلَى أَنَّ جَدَّتِي أَخَذَتْ شَيْئاً فَشَيْئاً تَغْرِفُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْدَنِ النَّفِيسِ وتَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ والْمُعْوِزِينَ حَتَّى نَفِدَ مَا فِي الْجِرَارِ وَانْجَلى قُعْرُها كَظَهْرِ الصَّفْوَانِ فِي الْخَلاَءِ. وَكَذَلِكَ إِلَى أَنْ وَفَدَ قَوْمٌ تُجَّارٌ مِنْ عُرْبَانِ فَرْجِيوَةَ عَلَى الشَّيْخِ جَدِّي يَبْتاعُونَ زَيْتاً بِقَصْدِ التَّعَامُلِ بِهِ فِي مَوْطِنِهِمْ.
وَلَمَّا كَانُوا مِنْ أَخْيَرِ الزَّبَائِنِ عِنْدَهُ، قَادَهُمُ الشَّيْخُ إِلَى بَيْتِهِ بِاهْتِمَامٍ لِيَكِيلَ لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ. لَكِنَّ الْعَجُوزَ جَدَّتِي، مَا إنْ وَقَعَتْ عَيْنُهَا عَلَيْهِمْ، حَتَّى ارْتَعَشَتْ عِظَامُها وأَصَابَها الغَثَيانُ وهَاهِيَ ذِي تَفِرُّ إِلَى بَعْضِ ذَوِيهَا مُتَسَتِّرَةً وَقَدْ خَشِيَتْ عَلَى نَفْسِها غايَةً.
لَمْ تَكُنِ الْمِسْكِينَةُ تُطِيقُ صُورَةَ رَجُلِهَا بِإِزَاءِ الأَزْيَارِ الْفَارِغَةِ إِنْ فِي الْخَيَالِ ورَكِبَهَا ذُعْرٌ وغَمٌّ شَدِيدَانِ كَادَا يُودِيَانِ بِعَقْلِهَا.
ثُمَّ انْقَضَى يَوْمٌ ويَوْمَانِ وجَدَّتِي فِي أَهْلِها تَنْتَظِرُ الْوَبالَ وإِذَا بِجَدِّي يَسْألُ عَنْهَا بِصَرَامَةٍ:
- يَا أَهْلَ هَذِهِ الدَّارِ، ألََمْ تُبْصِرُوا تِلْكَ الْعَجُوزَ أَيْنَ اتَّجَهَتْ؟
فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَيْهَا يَسْتَدْعِيهَا وتَأَكَّدَتِ الْمِسْكِينَةُ مِنْ أَنَّ سَاعَتَها قَدْ أَزِفتْ. عَلَى أَنَّهَا قَنَتَتْ إِلَى رَبِّهَا وتَوَكَّلتْ عَلَيْهِ وتَبِعَتِ الرَّسُولَ تَمْشِي الهُوَيْنَى بِتَجَلُّدٍ وصَبْرٍ.
وبَانَتْ قُدَّامَ بَعْلِهَا تَتَوَقَّعُ مِنْهُ الأَعْتَهَ الْعَصِيبَ. عَلَى أَنَّها أَلِفَتِ الأُمُورَ عَادِيةً لاَ تَنُمُّ عَلَى خَطَرٍ وتَسَاءَلَتِ الْعَجُوزُ حَائِرَةً كَأَنَّهَا تَتَحَسَّرُ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ عِقَابٍ:
- يَا فُلانَةُ ابْنَتِي، هَلِ اِكْتَالَ الْفَرْجِيوِيُّونَ حَاجَتَهُمْ؟
قَالَتْ كَنَّتُهَا:
- أَجَلْ لالاَّ…ولِمَ ذَا السُّؤَالُ وقَدْ وَجَدْنا الشَّبَائِلَ غامِرَةً تَكَادُ تَتَدفَّقُ؟
فَقَالَتِ الْعَجُوزُ:
- سُبْحَانَ رَبِّي الْكَرِيمِ الرَّحِيمِ الشَّفِيقِ!…واللهِ لَقَدْ تَرَكْتُ الْقُلَلَ فَارِغَةً تُصَفِّرُ بِهَا الرِّيَاحُ كَمَا تُصَفِّرُ فِي كُهُوفِ جِبَالِنَا هَتِهِ الْعَارِيَاتِ. وَقَدِ احْتَسَبْتُ نَفْسِِي وَوَدَّعْتُ مَالِيَ وبَيْتِي. ولَكِنَّهُ كُلُّهُ خَيْرُ الْمَوْلَى، مَا جُدْنَا بِهِ عَلَى عِبَادِهِ ردَّهُ إِلَيْنَا مِنْ حَيْثُ لاَ نَتَوَقَّعُ!
ثُمَّ ذَهَبَ عَنْهَا الرَّوْعُ وحَمَدَتْ رَبَّهَا حَمْداً كَثِيراً ولَبِثَتْ.
قَالَتْ جَدَّتِي:
- أَمْسَكَ الْقَاضِي ابنُ الفَقُّونِ عَنِ الْكَلاَمِ فَاتَّعَظَ جَدُّكِ وَمِنْ يَوْمِهَا لَمْ يَعُدْ يُعاتِبُني إطْلاقاً عَلَى شَيْءٍ أَنْبُذُه إِلَى الْمَحْرُومِينَ وأَسْتَوْدِعُهُ حِجْرَهُمْ حَتَّى تَغَمَّدَهُ الْبَارِئُ بِرَحْمَتِهِ.

من كتابي (حكايات جدّتي)

وإيّاك.

لا شكر على واجب أخاه ويبهجني فعلا أن أشاطركم إيّاها.

وفيك أخي وسلامي لكلّ أهلنا بغزّة.

كثيرا و لا تحرمينا من ابداع قلمك الرائع

إن شاء الله!

مرحبا بعودتك يا نجمتنا .

أطال الله عمرك وعمر المنتدى وكلّ عام وأنتم جميعا بخير ولو متأخّرة قليلا.

انت مدع سلمت يداك