العلاّمة محمّد بن أبي شنب
4 مشترك
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: المكتبــــــــةالأدبيــــــــة والثقافيــــــــة :: تراجم الشخصيات و الأدباء
صفحة 1 من اصل 1
العلاّمة محمّد بن أبي شنب
محمد بن أبي شنب العلامة الجزائري صلة الوصل بين الشرق والغرب
ألَّف الدكتور محمد بن أبي شنب مجموعة من الكتب منها: "تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب" (طبع في الجزائر سنة 1906) و"عنوان الدراية في علماء بجاية" (طبع في الجزائر سنة 1911) و"شرح ديوان عروة بن الورد العبسي" (طبع سنة 1926 بالجزائر) فتحقيق "كتاب الجمل للزجاجي" (طبع في الجزائر سنة 1927) و"الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المَرِينِيّة" (صدر في الجزائر عن "مطبعة جول كَرْبُونِيل" سنة 1920) و"مجموع أمثال العوام بأرض الجزائر والمغرب" (صدر في ثلاثة أجزاء، وطُبع في باريس 1905 ـ1907) و"البستان في أصل أولياء تلمسان لابن مريم" (الجزائر، 1908) و"الممتع في شرح المقنع لأبي سعيد السوي (طبع في الجزائر سنة 1908) و"الرقم ثلاثة عند العرب واستعماله في مختلف مجالات الحياة والعقيدة والشرع والدين"، وهو كتاب يبحث في موقع الرقم ثلاثة من الثقافة العربية. كما اشتغل بالترجمة من العربية إلى الفرنسية فصدر له "ديوان الحطيئة" ومجموعة أخرى من الدواوين والكتب "لكنها لم تطبع وبقيت مخطوطة".. هذا إلى جانب إعداده لفهارس بعض الكتب التي خلت منها، ك"شرح الحماسة" وكتاب "ألف باء" لأبي الحجاج يوسف البلوي، إلخ... وكان يحسن العربية والفرنسية والفارسية والألمانية والإيطالية والإسبانية والتركية واللاتينية والعبرية، على أنه كَتَبَ أغلب مؤلفاته باللغة الفرنسية. لذا يرجع إليه الفضل في تكوين أوّل نواة لقسم الأدب المقارن - حتى وإن كان بحدّ ذاته عِلْماً غائباً عن الجامعة الجزائرية لخضوعها، آنذاك، للنظام التعليمي الفرنسي - وبما أنّ ابن أبي شنب كان أول باحث جزائري يهتم بالترجمة، فقد فتح الجامعة بعض فَتْح على آداب الشعوب الأخرى، دراسة وتعليما وترجمة. بل لا يمكننا الحديث عن تدريس الأدب المقارن في العالم العربي دون الرجوع إلى اجتهاداته كرائد في الميدان. ومن أهم ما نشره في هذا المجال، الدراسة التي نشرها في "المجلة الإفريقية" سنة 1919 بعنوان "الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانتَه".
عُرف عن ابن أبي شنب التّواضُعُ وسعةُ الاطّلاع وحسنُ المعاملة وهاكم نادرة تُحكى في هذا الصدد. قِيل إنّه ركب، ذات يوم، القطار في مسقط رأسه باتّجاه الجزائر العاصمة، للإشراف على امتحانات الثانوية العامة أي البكالوريا. وإذا بشابين أوروبِيَّين يجلسان بجانبه وأخذا يسخران من لباسه التقليدي، فلم يأبه لهما وأكبّ يفحص ملفاته. في صباح اليوم التالي، فوجئ الشابان إذ وجداه يشرف على امتحانهما الشفهي، على أنّه لم يذكر ما جرى في القطار ولم يلمِّحْ لهما بشيء، فخجلا من نفسهما غاية.
فرض الدكتور محمد بن أبي شنب نفسه في الأوساط الثقافية داخل الجزائر وخارجها، وكانت له علاقات وطيدة مع الكثير من الكتاب العرب والمستشرقين وغيرهم من المهتمين بالثقافة العربية. نشأ في ظرف تاريخي معين جعله يركّز كل جهده على البحث والكتابة. وتنمّ المادة المتوافرة، برغم قلّتها، على فكر أكاديمي متكامل عُنِيَ بالتراثيْن الشعبي الجزائري والعربي الإسلامي فَتعبيرات اللهجة المحلية إلى دراسات أكاديمية أخرى.
وعليه فنستغرب عزوف الباحثين -جزائريين وعربا- عن شخصيّة العلامة محمد بن أبي شنب وهو الشّبيهُ بِحلقة الوصل الأساسية بين البحث الأكاديمي الفرنسي والبحث الأكاديمي العربي في فترة تاريخية مفصلية. ولد العلامة في عائلة متوسطة الحال ساعدته على التّحصيل والدراسة. فحفظ القرآن وتعلم اللغتين العربية والفرنسية، مواصلا تكوينه الإعدادي والثانوي في بلدته "المَدِيَة" حيث دُشِّنت باسمه مؤسسة تعليمية فجرَ الاستقلال. انتقل فيما بعد إلى العاصمة فحصل على شهادة أهَّلته للتّعليم الابتدائي، قبل أن ينتقل إلى قسنطينة مدرِّساً ودارِساً يرجو التخصُّص في العروض والاشتقاق والصرف والتوحيد والفقه.
يقول عن مولده: "العبد الحقير محمد العربي بن محمد بن أبي شنب ولد يوم الثلاثاء في العاشر من رجب سنة 1286 هجرية/ 26 أكتوبر سنة 1889 ميلادية بقرية يقال لها الْمَدِيَة (وتُعرَف اليوم بالاسم نفسه) جنوب الجزائر وتبعد عنها تسعين كيلومترا. قرأ شيئا قليلا من القرآن ثم قرأ اللغة والعلوم الفرنسية".. انتقل إلى جامعة الجزائر سنة 1908، حيث كان مساعداً لتعليم اللغة العربية، وواصل عمله في نفس الوقت بمدرسة الجزائر، حتى سنة 1922 حيث ناقش رسالة دكتوراه دولة حازها من القسم الأدبي من كلية الآداب بجامعة الجزائر. انتقل سنة 1924 نهائيا إلى كلية الآداب حيث كان أستاذا بها حتى وافته المنية يوم 5 فيفري 1929 وهو في قمة الإنتاج والعطاء، وكان موضوع أطروحته بعنوان "أبو دلامة حياته وشعره" باللغة الفرنسية، وقد طُبع في الجزائر سنة 1922، كما طبع في العام نفسه بحثا ثانيا بعنوان: "الألفاظ التركية والفارسية المستعملة في اللغة الجزائرية".
غير أن للباحث الجزائري الدكتور عبد المجيد حَنُّون رأيا آخر في محمد بن أبي شنب واتّصاله بالأدب المقارن، إذ يقول: "كان محمد بن أبي شنب مستشرقا قبل كل شيء، إلا أنه كان أول أستاذ جامعي جزائري، من جهة، ومتعدد اللغات من جهة ثانية. درس الأصول الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانته في بحثٍ له بالفرنسية طبعه سنة 1919 م. بحَث في أصول العديد من القضايا اللغوية والأدبية، فكان بذلك بداية الانفتاح على الغير حتى وإن كان من الصعب أن نعده مقارنا".
ويقول عنه صديقه وأستاذه جورج مارْسِهْ: "كنا نرجع إليه ونستضيء بضيائه وكنا نناديه (شيخنا) فإنه كان يجمع إلى صفات العلم والعالم الحقيقي صفات الصلاح والطيبة". وكانت كلمة "الشيخ" تعني له الحكمة فكان يحبذ سماعها نظرا أيضا لإسلامه المتفتح حيث كان حريصا، كما يقول تلميذه الزاهري، على تأدية الصلوات في أوقاتها، فجمع بشكل رزين بين العبادة والبحث والكتابة. وكان من صفاته أيضا الاهتمام بالمخطوطات التي كان يحث على الاحتفاظ بها، فاعتنى بتحقيق الكثير منها. نذكر منها على سبيل المثال: "الرحلة من تلمسان إلى مكة" و"رحلة إلى الحجاز" (طبع في الجزائر باللغة الفرنسية سنة 1908)، و"مشاركة في تاريخ صقلية" (صدر سنة 1910)، و"تاريخ ملوك الْمَرِينِيِّين" (صدر عن مطبعة "كورْبونيل" سنة 1921)، الخ... كما كان يحث الناس على عدم بيع المخطوطات المكتوبة من طرف جزائريين أو المتوفرة لديهم، وذلك عندما لاحظ أن بعض الغربيين يدفعون مبالغ مغرية لاقتناء كل ما يعثرون عليه من مخطوطات. وكان يجوب البلاد للاطّلاع عليها ويوصي معارفه بأن يعلموه بأماكن وجودها لأنها تعد ثروة ثقافية مهمة وذاكرة للشعب الجزائري."
أما الأستاذ مارْتِينُو - مدير كلية الآداب في جامعة الجزائر آنذاك - فيقول: "إن السيد ابن أبي شنب كان صوت الأديب المسلم الذي عرف كيف يطّلع على الأساليب الأوروبية في العمل من دون أن يفقد شيئا من صفاته وعاداته (...) وعرف لوازم النقد العلمي وقد حظي بالاعتراف بقدْره؛ ففي العام 1920 انتخبه المجمع العلمي بدمشق عضواً من أعضائه، وفي العام 1922 قلدته حكومة الجمهورية الفرنسية وسام فارس جوقة الشرف. وكان يمتاز بصفات تجعل كل من يعرفه يكنّ له المحبة والتقدير، فقد كان كريم النفس، ذا عقل متميز، عفيف اللسان في الإفصاح عن العواطف والالتزام بالاستقامة التامة".
أما الدكتور محمد كُرد عليّ فيقول في الصفحة 339 من كتابه "المعاصرون" الذي حققه وأشرف على طبعه محمد المصري، والصادر في بيروت (دار صادر سنة 1991): "ورجل من عيار ابن أبي شنب هو فخر أمة، قَمِينٌ أن يرفعها في نظر العالم المتمدن إلى مراتب الأمم الصالحة للبقاء. فقد تهيأ بما وُهب وما كَسب من العلم بأن يُظهر العِلمَ العربي في ثوب قشيب من نسج القرن العشرين، وأظهر أمتَه في مظهر أمة تسلسل فيها العلمُ ثلاثة عشر قرنا. من كبت للحرية في بلاده من قِبَل الاستعمار، قام حقَّ القيام بما أراده وأراده له وطنه، فبيَّضَ الوجوهَ في المواطنِ كلها".
نشر ابن أبي شنب أربعة وستين بحثاً في دائرة المعارف الإسلامية، وخمسة وسبعين دراسة أغلبها باللغة الفرنسية، صدر معظمها في دوريات فرنسية مختلفة، كالمجلة الفرنسية الصادرة عن "الجمعية التاريخية الحربية". كما عُيّن عضواً في "الجمعية الآسيوية" سنة 1906 ونشر فيها عدة بحوث، وكتب في "المجلة الإفريقية" الكثير من الدراسات، التي تُرجم معظمها ونشر في مجلة "الشهاب" الصادرة عن الحركة الإصلاحية الجزائرية. كما أسهم في كتب جماعية. وفي العام 1924 انتخبه المجمع اللغوي العلمي الاستعماري بباريس عضواً عاملا به.
قام بتمثيل الأساتذة الجزائريين والأوروبيين في مؤتمر المستشرقين الرابع عشر في أكسفورد ببريطانيا فكان لطه حسين فرصةً يتعرّف فيها إليه عن قرب. وكانت تربطه علاقةٌ قويةٌ بالعالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب وبالدكتور محمد كرد علي الذي قال فيه عندما سمعه في أكسفورد يلقي أحد بحوثه: "شهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين وهو في لباسه الوطني: عمامة صفراء ضخمة، وزنار عريض، وسراويل مسترسلة، ومعطف من صنع بلاده، فأُخِذتُ بسحر بيانه واتساعه في بحثه، وظننتني أستمع إلى عالم من أكبر علماء فرنسا وأدبائها في روح عربي وثقافة إسلامية، أو إلى عالم من علماء السلف جمع الله له بلاغة القلم وبلاغة اللسان ووفر له قسطاً من العلم والبصيرة، وقد فُطر على ذكاء وفضل وغرام بالتحصيل، وقُيِّض له أن يجمع بين ثقافتين ينبغ ويفصح في كل لغة بمعانيها".
كما كان على علاقة وثيقة بمجموعة من المستشرقين أمثال أستاذه رينيه باسيه، وصديقه جورج مارسِيه اللذين أقاما في الجزائر وكتبا الكثير في مجال اللغة العربية، فالمستشرق لِيفِي ابْرُوفَنْسال المَعْرُوف بكتاباته في مجال الأدب والتاريخ (ويعَد كتابه "تاريخ المسلمين في الأندلس" مرجعا مهما)، ثمّ المستشرق الروسي اكْرَاتُّشوفْسْكي أستاذ مادة الأدب العربي في جامعة سانْ بِيتِرْسْبُورْغْ والمشهور بمواقفه الرصينة في مادّة تخصّصه.
كان ابن أبي شنب حريصا على مراسلة أصدقائه وأساتذته وإتْحافِهِمْ بكتبه، فمتابِعا حركة النشر، إلاَّ أنّ نشاطه في المجمع اللغوي العربي لا يكادُ يُذكر باستثناء بعض المقالات والمراسلات. ومردُّ ذلك إلى نشاطه المكثف في التدريس والتأليف وربما أيضا إلى عامل المسافة. على أنّ الجدير بالذّكر أنّ التحركات الخارجيّة كانت مقصورة على الفرنسيين، وحدهم يمثلون الجامعة الجزائرية في الندوات واللقاءات إنْ في الغرب أو العالم العربي. وخجلُه إزاء طلبات أصدقائه العرب ملحوظٌ إذ كان يوجههم إلى الإدارة ويردّهم إلى المسؤولين، حيث لا نفوذ للرّجل رغم مكانته العلمية. وقد جاء في رده على الدكتور محمد كرد علي، لمّا علِم بقبول عضويته في المجمع العلمي: "أخبرتموني بأن حضرتكم وَسادَةُ أعضاء المجمع العلمي العربي قد تفضلتم على العبد الأضعف بتعيينه عضو شرف، والله لقد خالط عندي الجذل الخجل...جزاكم الله خيراً".
وجاء في رسالة بعث بها ابن أبي شنب إلى المؤرخ والعالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب في شأن كتاب كان يترّقبه: "جناب سمو الشيخ حسن حسني عبد الوهاب الأكرم، أدام الله بقاءه، وأجزل جزاءه، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد، فإن أشعة رسائلكم قد احتجبت عني منذ زمان، وتاقت النفس إلى الاطلاع عليها غاية التوقان. فضنت ضنونا (الرّسائلُ ضنَّت)، ورنت رنونا (النّفوسُ رنَّت بِرنين الشّوق)....هذا وقد وعدتموني في الأموس (أخرجت كلمة "أمس" على صيغة فعول لمناسبة "النّفوس" الآتية فيما بعد فيتمّ السّجع وربّما جُمِعت للدّلالة على الأمس البعيد)، بنسخة من رياض النفوس، وإلى يومنا هذا لم أقف لها على أثر...". فأجابه العالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب بقوله: "وافاني كتابكم كتب الله لكم السعادة، وأغدق عليكم نعمته وزيادة، بِوَشْيِكُم الرائق وترصيعكم الفائق مثبِتاً لحياة التَّرسل بالإيالة الجزائرية. أكثر الله من أمثالكم في الهيئة الإسلامية وعزز ببراعتكم حَمَلة الأقلام العربية". كما كان الدكتور محمد بن أبي شنب يُنتدَب إلى بعض الامتحانات العالية في المغرب العربي، ويرأس بعض لجانها المؤلّفة من كبار العلماء الفرنسيين. ويروي تلميذه محمد سعيد الزاهري أنه "التقى به في لجنة الامتحان في تونس سنة (1341 هـ / 1922م) في الكلية الزيتونية مع العلماء الفرنسيين فوجده عالماً جزائريا غير متجنِّس بالجنسية الفرنسية، ورئيساً مشرفاً على لجنة علمية فرنسية يرأس جلساتِها بزيّه الجزائري التقليدي، وحين حضرت صلاة العصر أوقف الجِلسة للاستراحة وقام فصلّى". ("المقتطف"، نوفمبر 1929).
نظم ابن أبي شنب الشعر الملحون كما نظم الشعر المقفى، وله عدة قصائد في الجزائر وفي مدح بلدته وأغراض أخرى. وحثّ على التزود بالعلم إذ قال:
عُرف عن ابن أبي شنب التّواضُعُ وسعةُ الاطّلاع وحسنُ المعاملة وهاكم نادرة تُحكى في هذا الصدد. قِيل إنّه ركب، ذات يوم، القطار في مسقط رأسه باتّجاه الجزائر العاصمة، للإشراف على امتحانات الثانوية العامة أي البكالوريا. وإذا بشابين أوروبِيَّين يجلسان بجانبه وأخذا يسخران من لباسه التقليدي، فلم يأبه لهما وأكبّ يفحص ملفاته. في صباح اليوم التالي، فوجئ الشابان إذ وجداه يشرف على امتحانهما الشفهي، على أنّه لم يذكر ما جرى في القطار ولم يلمِّحْ لهما بشيء، فخجلا من نفسهما غاية.
فرض الدكتور محمد بن أبي شنب نفسه في الأوساط الثقافية داخل الجزائر وخارجها، وكانت له علاقات وطيدة مع الكثير من الكتاب العرب والمستشرقين وغيرهم من المهتمين بالثقافة العربية. نشأ في ظرف تاريخي معين جعله يركّز كل جهده على البحث والكتابة. وتنمّ المادة المتوافرة، برغم قلّتها، على فكر أكاديمي متكامل عُنِيَ بالتراثيْن الشعبي الجزائري والعربي الإسلامي فَتعبيرات اللهجة المحلية إلى دراسات أكاديمية أخرى.
وعليه فنستغرب عزوف الباحثين -جزائريين وعربا- عن شخصيّة العلامة محمد بن أبي شنب وهو الشّبيهُ بِحلقة الوصل الأساسية بين البحث الأكاديمي الفرنسي والبحث الأكاديمي العربي في فترة تاريخية مفصلية. ولد العلامة في عائلة متوسطة الحال ساعدته على التّحصيل والدراسة. فحفظ القرآن وتعلم اللغتين العربية والفرنسية، مواصلا تكوينه الإعدادي والثانوي في بلدته "المَدِيَة" حيث دُشِّنت باسمه مؤسسة تعليمية فجرَ الاستقلال. انتقل فيما بعد إلى العاصمة فحصل على شهادة أهَّلته للتّعليم الابتدائي، قبل أن ينتقل إلى قسنطينة مدرِّساً ودارِساً يرجو التخصُّص في العروض والاشتقاق والصرف والتوحيد والفقه.
يقول عن مولده: "العبد الحقير محمد العربي بن محمد بن أبي شنب ولد يوم الثلاثاء في العاشر من رجب سنة 1286 هجرية/ 26 أكتوبر سنة 1889 ميلادية بقرية يقال لها الْمَدِيَة (وتُعرَف اليوم بالاسم نفسه) جنوب الجزائر وتبعد عنها تسعين كيلومترا. قرأ شيئا قليلا من القرآن ثم قرأ اللغة والعلوم الفرنسية".. انتقل إلى جامعة الجزائر سنة 1908، حيث كان مساعداً لتعليم اللغة العربية، وواصل عمله في نفس الوقت بمدرسة الجزائر، حتى سنة 1922 حيث ناقش رسالة دكتوراه دولة حازها من القسم الأدبي من كلية الآداب بجامعة الجزائر. انتقل سنة 1924 نهائيا إلى كلية الآداب حيث كان أستاذا بها حتى وافته المنية يوم 5 فيفري 1929 وهو في قمة الإنتاج والعطاء، وكان موضوع أطروحته بعنوان "أبو دلامة حياته وشعره" باللغة الفرنسية، وقد طُبع في الجزائر سنة 1922، كما طبع في العام نفسه بحثا ثانيا بعنوان: "الألفاظ التركية والفارسية المستعملة في اللغة الجزائرية".
غير أن للباحث الجزائري الدكتور عبد المجيد حَنُّون رأيا آخر في محمد بن أبي شنب واتّصاله بالأدب المقارن، إذ يقول: "كان محمد بن أبي شنب مستشرقا قبل كل شيء، إلا أنه كان أول أستاذ جامعي جزائري، من جهة، ومتعدد اللغات من جهة ثانية. درس الأصول الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانته في بحثٍ له بالفرنسية طبعه سنة 1919 م. بحَث في أصول العديد من القضايا اللغوية والأدبية، فكان بذلك بداية الانفتاح على الغير حتى وإن كان من الصعب أن نعده مقارنا".
ويقول عنه صديقه وأستاذه جورج مارْسِهْ: "كنا نرجع إليه ونستضيء بضيائه وكنا نناديه (شيخنا) فإنه كان يجمع إلى صفات العلم والعالم الحقيقي صفات الصلاح والطيبة". وكانت كلمة "الشيخ" تعني له الحكمة فكان يحبذ سماعها نظرا أيضا لإسلامه المتفتح حيث كان حريصا، كما يقول تلميذه الزاهري، على تأدية الصلوات في أوقاتها، فجمع بشكل رزين بين العبادة والبحث والكتابة. وكان من صفاته أيضا الاهتمام بالمخطوطات التي كان يحث على الاحتفاظ بها، فاعتنى بتحقيق الكثير منها. نذكر منها على سبيل المثال: "الرحلة من تلمسان إلى مكة" و"رحلة إلى الحجاز" (طبع في الجزائر باللغة الفرنسية سنة 1908)، و"مشاركة في تاريخ صقلية" (صدر سنة 1910)، و"تاريخ ملوك الْمَرِينِيِّين" (صدر عن مطبعة "كورْبونيل" سنة 1921)، الخ... كما كان يحث الناس على عدم بيع المخطوطات المكتوبة من طرف جزائريين أو المتوفرة لديهم، وذلك عندما لاحظ أن بعض الغربيين يدفعون مبالغ مغرية لاقتناء كل ما يعثرون عليه من مخطوطات. وكان يجوب البلاد للاطّلاع عليها ويوصي معارفه بأن يعلموه بأماكن وجودها لأنها تعد ثروة ثقافية مهمة وذاكرة للشعب الجزائري."
أما الأستاذ مارْتِينُو - مدير كلية الآداب في جامعة الجزائر آنذاك - فيقول: "إن السيد ابن أبي شنب كان صوت الأديب المسلم الذي عرف كيف يطّلع على الأساليب الأوروبية في العمل من دون أن يفقد شيئا من صفاته وعاداته (...) وعرف لوازم النقد العلمي وقد حظي بالاعتراف بقدْره؛ ففي العام 1920 انتخبه المجمع العلمي بدمشق عضواً من أعضائه، وفي العام 1922 قلدته حكومة الجمهورية الفرنسية وسام فارس جوقة الشرف. وكان يمتاز بصفات تجعل كل من يعرفه يكنّ له المحبة والتقدير، فقد كان كريم النفس، ذا عقل متميز، عفيف اللسان في الإفصاح عن العواطف والالتزام بالاستقامة التامة".
أما الدكتور محمد كُرد عليّ فيقول في الصفحة 339 من كتابه "المعاصرون" الذي حققه وأشرف على طبعه محمد المصري، والصادر في بيروت (دار صادر سنة 1991): "ورجل من عيار ابن أبي شنب هو فخر أمة، قَمِينٌ أن يرفعها في نظر العالم المتمدن إلى مراتب الأمم الصالحة للبقاء. فقد تهيأ بما وُهب وما كَسب من العلم بأن يُظهر العِلمَ العربي في ثوب قشيب من نسج القرن العشرين، وأظهر أمتَه في مظهر أمة تسلسل فيها العلمُ ثلاثة عشر قرنا. من كبت للحرية في بلاده من قِبَل الاستعمار، قام حقَّ القيام بما أراده وأراده له وطنه، فبيَّضَ الوجوهَ في المواطنِ كلها".
نشر ابن أبي شنب أربعة وستين بحثاً في دائرة المعارف الإسلامية، وخمسة وسبعين دراسة أغلبها باللغة الفرنسية، صدر معظمها في دوريات فرنسية مختلفة، كالمجلة الفرنسية الصادرة عن "الجمعية التاريخية الحربية". كما عُيّن عضواً في "الجمعية الآسيوية" سنة 1906 ونشر فيها عدة بحوث، وكتب في "المجلة الإفريقية" الكثير من الدراسات، التي تُرجم معظمها ونشر في مجلة "الشهاب" الصادرة عن الحركة الإصلاحية الجزائرية. كما أسهم في كتب جماعية. وفي العام 1924 انتخبه المجمع اللغوي العلمي الاستعماري بباريس عضواً عاملا به.
قام بتمثيل الأساتذة الجزائريين والأوروبيين في مؤتمر المستشرقين الرابع عشر في أكسفورد ببريطانيا فكان لطه حسين فرصةً يتعرّف فيها إليه عن قرب. وكانت تربطه علاقةٌ قويةٌ بالعالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب وبالدكتور محمد كرد علي الذي قال فيه عندما سمعه في أكسفورد يلقي أحد بحوثه: "شهدته يخطب بالفرنسية في مؤتمر المستشرقين وهو في لباسه الوطني: عمامة صفراء ضخمة، وزنار عريض، وسراويل مسترسلة، ومعطف من صنع بلاده، فأُخِذتُ بسحر بيانه واتساعه في بحثه، وظننتني أستمع إلى عالم من أكبر علماء فرنسا وأدبائها في روح عربي وثقافة إسلامية، أو إلى عالم من علماء السلف جمع الله له بلاغة القلم وبلاغة اللسان ووفر له قسطاً من العلم والبصيرة، وقد فُطر على ذكاء وفضل وغرام بالتحصيل، وقُيِّض له أن يجمع بين ثقافتين ينبغ ويفصح في كل لغة بمعانيها".
كما كان على علاقة وثيقة بمجموعة من المستشرقين أمثال أستاذه رينيه باسيه، وصديقه جورج مارسِيه اللذين أقاما في الجزائر وكتبا الكثير في مجال اللغة العربية، فالمستشرق لِيفِي ابْرُوفَنْسال المَعْرُوف بكتاباته في مجال الأدب والتاريخ (ويعَد كتابه "تاريخ المسلمين في الأندلس" مرجعا مهما)، ثمّ المستشرق الروسي اكْرَاتُّشوفْسْكي أستاذ مادة الأدب العربي في جامعة سانْ بِيتِرْسْبُورْغْ والمشهور بمواقفه الرصينة في مادّة تخصّصه.
كان ابن أبي شنب حريصا على مراسلة أصدقائه وأساتذته وإتْحافِهِمْ بكتبه، فمتابِعا حركة النشر، إلاَّ أنّ نشاطه في المجمع اللغوي العربي لا يكادُ يُذكر باستثناء بعض المقالات والمراسلات. ومردُّ ذلك إلى نشاطه المكثف في التدريس والتأليف وربما أيضا إلى عامل المسافة. على أنّ الجدير بالذّكر أنّ التحركات الخارجيّة كانت مقصورة على الفرنسيين، وحدهم يمثلون الجامعة الجزائرية في الندوات واللقاءات إنْ في الغرب أو العالم العربي. وخجلُه إزاء طلبات أصدقائه العرب ملحوظٌ إذ كان يوجههم إلى الإدارة ويردّهم إلى المسؤولين، حيث لا نفوذ للرّجل رغم مكانته العلمية. وقد جاء في رده على الدكتور محمد كرد علي، لمّا علِم بقبول عضويته في المجمع العلمي: "أخبرتموني بأن حضرتكم وَسادَةُ أعضاء المجمع العلمي العربي قد تفضلتم على العبد الأضعف بتعيينه عضو شرف، والله لقد خالط عندي الجذل الخجل...جزاكم الله خيراً".
وجاء في رسالة بعث بها ابن أبي شنب إلى المؤرخ والعالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب في شأن كتاب كان يترّقبه: "جناب سمو الشيخ حسن حسني عبد الوهاب الأكرم، أدام الله بقاءه، وأجزل جزاءه، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد، فإن أشعة رسائلكم قد احتجبت عني منذ زمان، وتاقت النفس إلى الاطلاع عليها غاية التوقان. فضنت ضنونا (الرّسائلُ ضنَّت)، ورنت رنونا (النّفوسُ رنَّت بِرنين الشّوق)....هذا وقد وعدتموني في الأموس (أخرجت كلمة "أمس" على صيغة فعول لمناسبة "النّفوس" الآتية فيما بعد فيتمّ السّجع وربّما جُمِعت للدّلالة على الأمس البعيد)، بنسخة من رياض النفوس، وإلى يومنا هذا لم أقف لها على أثر...". فأجابه العالم التونسي حسن حسني عبد الوهاب بقوله: "وافاني كتابكم كتب الله لكم السعادة، وأغدق عليكم نعمته وزيادة، بِوَشْيِكُم الرائق وترصيعكم الفائق مثبِتاً لحياة التَّرسل بالإيالة الجزائرية. أكثر الله من أمثالكم في الهيئة الإسلامية وعزز ببراعتكم حَمَلة الأقلام العربية". كما كان الدكتور محمد بن أبي شنب يُنتدَب إلى بعض الامتحانات العالية في المغرب العربي، ويرأس بعض لجانها المؤلّفة من كبار العلماء الفرنسيين. ويروي تلميذه محمد سعيد الزاهري أنه "التقى به في لجنة الامتحان في تونس سنة (1341 هـ / 1922م) في الكلية الزيتونية مع العلماء الفرنسيين فوجده عالماً جزائريا غير متجنِّس بالجنسية الفرنسية، ورئيساً مشرفاً على لجنة علمية فرنسية يرأس جلساتِها بزيّه الجزائري التقليدي، وحين حضرت صلاة العصر أوقف الجِلسة للاستراحة وقام فصلّى". ("المقتطف"، نوفمبر 1929).
نظم ابن أبي شنب الشعر الملحون كما نظم الشعر المقفى، وله عدة قصائد في الجزائر وفي مدح بلدته وأغراض أخرى. وحثّ على التزود بالعلم إذ قال:
أفيقوا بني عمي بِرَقْيِ المشارف ***** وجِدّوا وكِدّوا في اكتساب المعارف
فقد ذهب الأعلامُ والعِلْمُ بينكم ***** ولم يبق إلا كلُّ غُمْرٍ وخالِف
خلت أَربُعُ العِرفان واستوطن البِلى ***** وَغَفَ غرابُ الجَهْلِ حقّاً بِشارِف
فيا وحشتا من طالب ومدرِّس ****** ومُنْشِد أشعار وراوي اللَّطائف
فقد ذهب الأعلامُ والعِلْمُ بينكم ***** ولم يبق إلا كلُّ غُمْرٍ وخالِف
خلت أَربُعُ العِرفان واستوطن البِلى ***** وَغَفَ غرابُ الجَهْلِ حقّاً بِشارِف
فيا وحشتا من طالب ومدرِّس ****** ومُنْشِد أشعار وراوي اللَّطائف
وقال في قصيدة يمدح فيها الجزائر:
حثّ ابن أبي شنب بكتاباته على العلم والمطالعة المفيدة الموضوعيّة بغضّ النّظر عن أشكالها اللّغويّة فَقال: "خذ العلم، وماذا يعنيك أكان بأسلوب طلي أم كان بأسلوب غير طلي، وحسبك أنك فهمت عني ما أريد. ولا تَغُرَنَّكَ زخارف الألفاظ وتزويقاتها، فليست اللغة وأساليبها إلا أداة للفهم والتفهيم". كان يرى أن طلاوة الأفكار تغري "الشباب الذين يهتمون بمظاهر الأشياء".
توفي ابن أبي شنب بعد حياة حافلة بالعطاء والتأليف والقراءة، فقال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي: "كان الرجل محافظا ولكنه محافظٌ بالمعنى المعقول، محافظةَ البصير الناقد الذي يرى أن مشخَّصات الأمم منها جوهرٌ ومنها عرَضٌ، وأن الجوهر منها هو الصالح للبقاء وأنه لا بد للفرد ولا بد للجماعة من تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره مَوْكُولٌ إلى نذير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات، وأن العَرَض منها هو محلُّ التَّبديل والتغيير يصلح لزمن فيؤخذ ولا يصلح لآخر فينفذ" ( مجلة "الشهاب"، العدد 5 و6، ذو الحجة 1347، الموافق شهرَ مارس سنة 1929). بيد أنّه كان يرى أيضا وجوب تحرر الفكر من قيود الأوهام المعارضة للدين والأخلاق وقِيَمِهما، تلك الأوهام التي تَعْكِلُ المسيرة وتعيق النهوض فكان يدعو إلى تحويل الجهود من الاهتمام بالأوهام إلى الممارسة العلميّة. وكان يرى أن المثقفين المسلمين يبذلون طاقاتهم في "التشاكس والتطاول" بعضهم على بعض، ولا "يتمتعون بالحياة التي يتمتع بها علماء الغرب وأدباؤه". فكانت ما جعل الأمة لا "تثق بهم وبأعمالهم ولو علموا كل شيء".
كان الرجل يؤلّف بمنهج علمي غدا به مَعْلَماً أكاديميّا، متطرّقا إلى مواضيع شتى، فإذا حان وقت الجوائز والتّصفيقات، لم يَجْنِ من ثمار سوى بعض مقالات زهيدات سُطِّرت عنه هنا وهناك، وكتاب يتيم بعنوان: "محمد ابن أبي شنب: حياته وآثاره" لعبد الرحمن بن محمد الجيلالي، الصادر في الجزائر، عن المؤسسة الوطنية للكتاب، سنة 1983. أمّا الباحثون العرب الّذين تطرّقوا إليه، فلم يتجاوزوا ذكر اسمه ولم يدرسوا أعماله كما فعلوا مع أقرانه محمد كُرد علي ورونيه باسِيه وهَنْرِيه ماسِيه وغيرهم كثير، رغم الحكم الجامع بأنّه أحد أبرز أوجه "النهضة" لا يتأخّر شبرا عن عبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل ورفاعة رافع الطهطاوي وآخرين.
إلا أن بعض الأساتذة في مسقط رأسه "المَدِية" انبروا يجتمعون يوما في السنة لمباحثة تاريخ وإرثه، لولا أنّها مبادرة لا ترقى إلى مستواه، مكتفية بسرد حياته؛ بيد أنّا نشجعّها ونُهِيب بها على الاستمرار عسى أن تتطوّر فيقتدي الباحثون بها وربّما يُلحِقوا جهودهم بجهودها. وهذا حفيده الدكتور الهادي بن أبي شنب يواصل البحث والتنقيب وقد كتب حول جده مقدمة طويلة في الملف البيبليوغرافي الذي أصدرته مكتبة "معهد العالم العربي" بمناسبة مرور خمسة وسبعين سنة على وفاته، كما راسل كثيراً من الأساتذة لاحتذاء حذوه.
لكنّ موقف ابن أبي شنب من الاستعمار الفرنسي محيّر، مُفْحِم. أوَ كان يحسَب دورَه في الجهاد الكتابةُ لا غيرُ أم تراه سلَّمَ بالأمر الواقع؟ مهماً أكد الشيخ البشير الإبراهيمي بأن جهاد الرجل كان بالكلمة "في المحافظة على القومية الصحيحة، في إطراح الحظوظ والرهانات، في استخدام البصيرة في كل شأن من شؤون الحياة في القصد"، تبقى تلك نقطةً غامضةً في سيرة العالم. أما المستشرق ألفريد بِيل صديقه فيقول في مقالة كتبها في المجلة الآسيوية بعنوان: "محمد بن أبي شنب فقيد العلم" ( المجلد 214، سنة 1929) تناول فيها علاقة الرّجل بالسياسة: "وبقي ابن أبي شنب بعيدا ومترفعاً عن خوض المناقشات السياسية أو المعارك الانتخابية التي كانت لها أهمية كبرى لدى كثير من الجزائريين. فقد رأى أن من الأفضل أن يظهر علاقته بفرنسا وبأساتذته على منوال آخر، وذلك باستخدام نشاطه الخصب ومعرفته الواسعة، في عمل علمي فرنسي المنهج حول الدراسات الإسلامية في شمال إفريقيا". فالأستاذ بيل يؤكّد تذمُّر الجزائريين بحالهم وخوضهم معارك سياسية للخلاص، ما لم يُعِرْهُ ابن أبي شنب اهتماما كبيرا.
هذا ورغم أنّ ابن أبي شنب قد اهتم اهتماما كبيرا بالتراث الشعبي الجزائري والتعبيرات اللهجية النمطية إلا أن أعمال هذا "الدارس لم تتحرر تماما من طابع البحث الأكاديمي الفرنسي، حيث كان يركز على جانب التوثيق والتعليق والملاحظة الوصفية الأثنوغرافية في البحث الأكاديمي حول التراث واللهجات" على حد تعبير الدكتور عبد الحميد بُورَايو. ذلك لأنه في الواقع "عالم أكثر مما هو أديب وأبحاثه وإن كانت في موضوعات أدبية شتى فهي أبحاث علمية على طريقة علماء المشرقيات" ("المقتطف"، 1929، ص 423). ولكن لا جدال في أنّه كان من أعمدة اللغة العربية في الجزائر، في زمن كانت فيه القراءة والكتابة والبحث باللغة العربية نضالاً وصموداً كبيرين
.
الطيب ولد العروسيهلُمَّ بنا نحو الجزائر يا فتى ***** فقد ضاق بي حالي وأقعدني الوَجْدُ
هناك غزال قد غدا بِسَوَاحِر***** وخدٌّ به يزهو الأقاحي والوردُ
قارنَهُ عبد الرحمن الجيلالي، في كتابه "محمد بن أبي شنب، حياته وآثاره"، بالبحاثة الكبير أحمد فارس الشدياق، وذلك من ناحية "التعمّق والتبحّر في علوم اللغة العربية وآدابها، والبحث في مفرداتها وتراكيبها، فكلا الرجلين كان إماما ضليعا في هذا الميدان"، وبحث عن أوجه التشابه بينهما أيضا في مجال الأسلوب، فرأى أنه يميل إلى الأسلوب العلمي لوصْفه الأمورَ بدقة، بعيدا عن زركشة الكلام واعتماد الخيال الذي يغلب أحيانا على جوهر الموضوع المعالج. هذا فيما يخص التأليف، أما فيما يخص مراسلاته فنجده يستعمل أسلوبا مختلفا يدبجه بعبارات المحسنات البديعية ويدخل فيها أحيانا غريب اللفظ.هناك غزال قد غدا بِسَوَاحِر***** وخدٌّ به يزهو الأقاحي والوردُ
حثّ ابن أبي شنب بكتاباته على العلم والمطالعة المفيدة الموضوعيّة بغضّ النّظر عن أشكالها اللّغويّة فَقال: "خذ العلم، وماذا يعنيك أكان بأسلوب طلي أم كان بأسلوب غير طلي، وحسبك أنك فهمت عني ما أريد. ولا تَغُرَنَّكَ زخارف الألفاظ وتزويقاتها، فليست اللغة وأساليبها إلا أداة للفهم والتفهيم". كان يرى أن طلاوة الأفكار تغري "الشباب الذين يهتمون بمظاهر الأشياء".
توفي ابن أبي شنب بعد حياة حافلة بالعطاء والتأليف والقراءة، فقال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي: "كان الرجل محافظا ولكنه محافظٌ بالمعنى المعقول، محافظةَ البصير الناقد الذي يرى أن مشخَّصات الأمم منها جوهرٌ ومنها عرَضٌ، وأن الجوهر منها هو الصالح للبقاء وأنه لا بد للفرد ولا بد للجماعة من تكييفه كما يشاء أو كما تشاء، وأن تطوره مَوْكُولٌ إلى نذير الاجتماع لا إلى تدبير الجماعات، وأن العَرَض منها هو محلُّ التَّبديل والتغيير يصلح لزمن فيؤخذ ولا يصلح لآخر فينفذ" ( مجلة "الشهاب"، العدد 5 و6، ذو الحجة 1347، الموافق شهرَ مارس سنة 1929). بيد أنّه كان يرى أيضا وجوب تحرر الفكر من قيود الأوهام المعارضة للدين والأخلاق وقِيَمِهما، تلك الأوهام التي تَعْكِلُ المسيرة وتعيق النهوض فكان يدعو إلى تحويل الجهود من الاهتمام بالأوهام إلى الممارسة العلميّة. وكان يرى أن المثقفين المسلمين يبذلون طاقاتهم في "التشاكس والتطاول" بعضهم على بعض، ولا "يتمتعون بالحياة التي يتمتع بها علماء الغرب وأدباؤه". فكانت ما جعل الأمة لا "تثق بهم وبأعمالهم ولو علموا كل شيء".
كان الرجل يؤلّف بمنهج علمي غدا به مَعْلَماً أكاديميّا، متطرّقا إلى مواضيع شتى، فإذا حان وقت الجوائز والتّصفيقات، لم يَجْنِ من ثمار سوى بعض مقالات زهيدات سُطِّرت عنه هنا وهناك، وكتاب يتيم بعنوان: "محمد ابن أبي شنب: حياته وآثاره" لعبد الرحمن بن محمد الجيلالي، الصادر في الجزائر، عن المؤسسة الوطنية للكتاب، سنة 1983. أمّا الباحثون العرب الّذين تطرّقوا إليه، فلم يتجاوزوا ذكر اسمه ولم يدرسوا أعماله كما فعلوا مع أقرانه محمد كُرد علي ورونيه باسِيه وهَنْرِيه ماسِيه وغيرهم كثير، رغم الحكم الجامع بأنّه أحد أبرز أوجه "النهضة" لا يتأخّر شبرا عن عبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل ورفاعة رافع الطهطاوي وآخرين.
إلا أن بعض الأساتذة في مسقط رأسه "المَدِية" انبروا يجتمعون يوما في السنة لمباحثة تاريخ وإرثه، لولا أنّها مبادرة لا ترقى إلى مستواه، مكتفية بسرد حياته؛ بيد أنّا نشجعّها ونُهِيب بها على الاستمرار عسى أن تتطوّر فيقتدي الباحثون بها وربّما يُلحِقوا جهودهم بجهودها. وهذا حفيده الدكتور الهادي بن أبي شنب يواصل البحث والتنقيب وقد كتب حول جده مقدمة طويلة في الملف البيبليوغرافي الذي أصدرته مكتبة "معهد العالم العربي" بمناسبة مرور خمسة وسبعين سنة على وفاته، كما راسل كثيراً من الأساتذة لاحتذاء حذوه.
لكنّ موقف ابن أبي شنب من الاستعمار الفرنسي محيّر، مُفْحِم. أوَ كان يحسَب دورَه في الجهاد الكتابةُ لا غيرُ أم تراه سلَّمَ بالأمر الواقع؟ مهماً أكد الشيخ البشير الإبراهيمي بأن جهاد الرجل كان بالكلمة "في المحافظة على القومية الصحيحة، في إطراح الحظوظ والرهانات، في استخدام البصيرة في كل شأن من شؤون الحياة في القصد"، تبقى تلك نقطةً غامضةً في سيرة العالم. أما المستشرق ألفريد بِيل صديقه فيقول في مقالة كتبها في المجلة الآسيوية بعنوان: "محمد بن أبي شنب فقيد العلم" ( المجلد 214، سنة 1929) تناول فيها علاقة الرّجل بالسياسة: "وبقي ابن أبي شنب بعيدا ومترفعاً عن خوض المناقشات السياسية أو المعارك الانتخابية التي كانت لها أهمية كبرى لدى كثير من الجزائريين. فقد رأى أن من الأفضل أن يظهر علاقته بفرنسا وبأساتذته على منوال آخر، وذلك باستخدام نشاطه الخصب ومعرفته الواسعة، في عمل علمي فرنسي المنهج حول الدراسات الإسلامية في شمال إفريقيا". فالأستاذ بيل يؤكّد تذمُّر الجزائريين بحالهم وخوضهم معارك سياسية للخلاص، ما لم يُعِرْهُ ابن أبي شنب اهتماما كبيرا.
هذا ورغم أنّ ابن أبي شنب قد اهتم اهتماما كبيرا بالتراث الشعبي الجزائري والتعبيرات اللهجية النمطية إلا أن أعمال هذا "الدارس لم تتحرر تماما من طابع البحث الأكاديمي الفرنسي، حيث كان يركز على جانب التوثيق والتعليق والملاحظة الوصفية الأثنوغرافية في البحث الأكاديمي حول التراث واللهجات" على حد تعبير الدكتور عبد الحميد بُورَايو. ذلك لأنه في الواقع "عالم أكثر مما هو أديب وأبحاثه وإن كانت في موضوعات أدبية شتى فهي أبحاث علمية على طريقة علماء المشرقيات" ("المقتطف"، 1929، ص 423). ولكن لا جدال في أنّه كان من أعمدة اللغة العربية في الجزائر، في زمن كانت فيه القراءة والكتابة والبحث باللغة العربية نضالاً وصموداً كبيرين
.
من مجلّة اللّسان الحرّ، العدد الثّاني
[center][right]
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: العلاّمة محمّد بن أبي شنب
بارك الله فيك على هذا الموضوع
كم أديبا و شاعرا أنجبته الجزائر و لا نعرف عنه شيئا.
كنت سأألك عن مسقط رأسه قبل أن أختم قراءة الموضوع، و من حسن حظي أني وجدته في الفقرة الاخيرة.
كم أديبا و شاعرا أنجبته الجزائر و لا نعرف عنه شيئا.
كنت سأألك عن مسقط رأسه قبل أن أختم قراءة الموضوع، و من حسن حظي أني وجدته في الفقرة الاخيرة.
عبد الله- عضو نشيط
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 25/09/2009
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 201
الـمــــــــــــزاج : متقلب
رد: العلاّمة محمّد بن أبي شنب
عن هذه المعلومات الهامة
aissa.b- عضو برونزي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 19/11/2010
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 885
الـمــــــــــــزاج : هادىء
رد: العلاّمة محمّد بن أبي شنب
أشكر لكما مروركما.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
عاشق الجنه- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 27/03/2010
عـــدد المساهمـــات : 1234
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: المكتبــــــــةالأدبيــــــــة والثقافيــــــــة :: تراجم الشخصيات و الأدباء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2016, 19:32 من طرف أبو إلياس
» الله هو الغنيُّ المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:29 من طرف أبو إلياس
» صفة من صفات أهل الإسلام
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:27 من طرف أبو إلياس
» آداب الإنترنت: فنون المعاتبة .. ومعالجة الأخطاء
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:26 من طرف أبو إلياس
» مركز اللغات بجامعة المدينة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 18:35 من طرف أبو إلياس
» مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 00:34 من طرف Nassima Tlemcen
» aidez-moi vite svp
الثلاثاء 12 يناير 2016, 16:30 من طرف أبو إلياس
» حوليات وزارة التربية 2012 في العلوم الطبيعية
الجمعة 04 ديسمبر 2015, 13:04 من طرف lynda2013
» لمـــــــــــــــــــاذا تبـــــــكي النّســـــــــــــــــــاء
الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 18:46 من طرف أبو إلياس