في قيمة الوقت

الْحَضارَةُ في دَقائقَ

كَيْفَ تَظُنُّ أنَّ النَّاسَ يَبْنُونَ حَضاراتِهِمْ؟ أَقْصِدُ: كَيْفَ تَتَصَوَّرُ أَنَّ الأُورُوبِيِّينَ قَدْ خَلَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ لِباسَ الذُّلِّ وارْتَدَوْا قِيافَةَ التَّمَدُّنِّ؟...إنِّي أَسْمَعُكَ بَعْدُ تَقُولُ لِي:
-إنَّهُمْ خَرَمُونَا كُلَّ عُلُومِنَا ولَقَدْ كانَتْ لَنا أَمْجادٌ اِحْتَكَرُوها و...و...و...
عَلى أَنّنِي سَأُوَلِّي عَنْكَ بِوَجْهِي غَيْرَ راضِيَةٍ عَنِ جَوَابِكَ وسَأَقُولُ لَكَ:
-كَلاَّ! إنَّ ذَلِكَ لا يَصْنَعُ حَضارَةً. ولا يَصْنَعُ مَتَحضِّرِينَ. أَمَا رَأَيْتَ كَيْفَ أَنَّ إخْوَانَكَ الْعَرَبَ قَدْ نَقَلُوا حَرْفِيّاً كَثِيراً مِمَّا في كُتُبِ الإفْرَنْجَةِ مِنَ الْعُلُومِ والْجِرْمانِ فَما غَيَّرَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِهِمِ الْمُزْرِيِّ قَدْرَ أَنْمُلَةٍ؟ أَما كانَ في الْجامِعاتِ الْغَرْبِيَّةِ وَفْدٌ عَظِيمٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعالَمِ الْعَرَبِيِّ، يَنْهَلُونَ مِنْ مَعِينِ الْغَرْبِ ويَدْرُسُونَ عَلى أَساتِذَتِهِ ويُذاكِرُونَ في الْكُتُبِ والدَّوَاوِينِ نَفْسِها الّتي يَتَعَلَّمُ مِنْها أَبْناءُ الإفْرَنْجَةِ؟ ولَكِنْ، هَلْ غَيَّرَ ذَلِكَ شَيْئاً مِنَ الْمُسْتَوَى الْمَعِيشِيِّ أَوِ الْفِكْرِيِّ لِبُلْدانِنا؟ أَمْ هَلْ بَدَّلَ ذَلِكَ شِبْراً مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَذَلَّةٍ؟ بَلْ إنَّ أَدْمِغَتَنا وعَباقِرَتَنا يُهَجَّرُونَ بِالذَّهَبِ والْفِضَّةِ إلى أَقْطَارِ الْغَرْبِ، تُمَهَّدُ لَهُمْ سُبُلُ الْيُسْرِ والرَّفاهِيَّةِ دَلِيلاً على أَنَّ الْغَرْبَ في أَشَدِّ الْحاجَةِ إلى ذَكائهِمْ وعِلْمِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ عَرَبٌ! فَلأيِّ ما عِلَّةٍ لَمْ يَمْكُثْ هَؤُلاَءِ في بِلادِهِمْ وجَعَلُوا مِنَّا نَحْنُ أَبْناءَ جِلْدَتِهِمْ قُوَّةً نَفَّاذَةً في عالَمِ الْيَوْمِ؟ بَلْ ولأَيِّ ما عِلَّةٍ لَمْ يُوَفِّرُوا لَنَا أَسْبابَ الرَّقاءِ يَوْمَ كانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظَهْرانِينا ولا يَزالُون؟
أَنْتَ لا تُحِيرُ جَوَاباً لأَنَّكَ لا تَمْلِكُهُ. وإنِّي لأَرَى الْحَيْرَةَ في عَيْنَيْكَ تَكادُ تُفْلِتُ إلَيَّ فَهاكَ الْجَوَابَ يُنْقِضْكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ تِيهٍ وشُرُود.
اِعْلَمْ أَنَّ الْحَضارَةَ والرُّقَيَّ لا يَجِيئانِ مِنَ الْعِلْمِ والْعَقْلِ وَحْدَهُما، بَلْ يَتَأَتَّيَانِ أكْثَرَ ما يَتَأَتَّيَانِ مِنَ الأَخْلاق. وأَكْثَرُ فُرَجِ الاِتِّصالِ بِمَعالِمِ الاِعْتِلاءِ والسُّؤْدُدِ إنَّما يُدْلَفُ إلَيْهِما مِنْ حَيْثُ يَنْفُذُ الرَّشادُ وصَلاحُ الْفِكْرِ.
أَراكَ لا تَفْهَمُ عَنِّي فَخُذْ بِهَذا الْمَثَلِ أَضْرِبُهُ لَكَ يَنْفَعْكَ. اِعْلَمْ أَنَّنِي، يَوْمَ كُنْتُ طَالِبَةً في بارِيسَ، بِمَعْهَدِ اللُّغاتِ الشَّرْقِيَّةِ، صادَفَ أَنْ دَخَلْتُ قِسْمِي خَمْسَ دَقائقَ قَبْلَ مَوْعِدِ الدَّرْسِ. فَأَلْفَيْتُ بِهِ شَيْخاً مُسِنّاً مِنْ هَؤُلاءِ الْمُتَقاعِدِينَ الْفِرَنْسِيِّينَ الّذِينَ بَعْدَ أَنْ يُعْفُوا مِنَ الْوَظِيفَةِ، يَعُودُونَ إلى مَقاعِدِ الْجامِعاتِ يَتَعَلَّمُونَ مُدَّةَ ما تَبَقَّى لَهُمْ مِنَ الْعُمْرِ. وما أَكْثَرَ ما كُنْتُ أُقابِلُ هَؤُلاءِ الْمُسِنِّينَ، نِساءً ورِجالاً، في أَرْوِقَةِ الْمَعْهَدِ وفُصُولِهِ يَدْرُسُونَ مُخْتَلِفَ اللُّغاتِ الشَّرْقِيَةَ! وبَيْنِي وبَيْنَكَ، هَذِهِ بَعْدُ عَلامَةٌ مِنْ عَلاماتِ الرُّقَيِّ والتَّحَضُّرِ تَمَيَّزُوا بِها.
مَهْماً يَكُنْ، دَخَلْتُ الْقِسْمَ كَما قُلْتُ لَكَ وإذا بِالرَّجُلِ الشَّائبِ مَفْرَقُهُ يَسْأَلُنِي بِلُطْفٍ:
-أَنْتِ علَى مَوْعِدٍ بِحِصَّةٍ هُنا؟
إجَبْتُ:
-إيْ نَعَمْ!
قال:
-وعَلَى أَيَّةِ ساعَةٍ؟
قُلْتُ:
-عِنْدَما تَكْمُلُ تَماماً.
نَظَرَ الرَّجُلُ الْمُحْتَرَمُ في ساعَتِهِ ثُمَّ قال:
-إنَّ ذَلِكَ بَعْدَ خَمْسِ دَقائقَ!
ثُمَّ جَمَعَ أَدَوَاتِهِ وَضَعَها في مِحْفاظِهِ اسْتِعْداداً لِلْخُرُوجِ. بَيْدَ أَنَّهُ سُرْعانَ ما الْتَفَتَ إلَيَّ، وبَيْنَما إصْبِعانِ يَحُكّانِ مُقَدَّمَةَ رَأْسِهِ، أَرْدَفَ مُفَكِّراً:
-ولَكِنْ...يُمْكِنُنا تَغْيِيرُ الْعالَمِ في خَمْسِ دَقائقَ!
وَانْكَفَأَ إلى مَكانِهِ وأَخْرَجَ أَدَوَاتِهِ مِنْ جَدِيدٍ وجَلسَ إلى مِنْضَدَةِ الدَّرْسِ بِنَشاطٍ، وطَفِقَ يُراجِعُ دُرُوسَهُ إلى أَنْ وَصَلَ أُسْتاذِي.
بِقِيتُ مُسْتَغْرِبَةً لِتَصَرُّفِهِ مُحْتارَةً. وجَعَلْتُ أُفَكِّرُ في الْمَوْعِظَةِ الّتي أَسْدَاها لِي ذَلِكَ الشَّيْخُ الْفِرَنْسِيُّ. وأَدْرَكْتُ بِيُسْرٍ أَنَّ سَبَبَ تَحَضُّرِ الْغَرْبِ إنَّما يَكْمُنُ في نَظَرِهِمْ إلى الأَشْياءِ، وفي نَمَطِ تَفْكِيرِهِمْ، وفي سَجِيَّةِ الصَّبْرِ على الْعَمَلِ لَدَيْهِمْ، وخَصْلَةِ الْمُواظَبَةِ الّتِي فِيهِمْ سَلِيقَةٌ ثابِتَةٌ، وحُسْنِ اسْتِغْلالِهِمْ لِلْوَقْتِ.
نجمة سيّد أحمد
باريس في: 31 مايو 1999
(في قِبَب بَنِي مِزْغِنّا)

موضوعك يا أختي جذاب و جدير بالاهتمام و التبصّر
لكن من أين لك هذه اللغة البليغة و أنت مقيمة بفرنسا؟
عفوا على هذا السؤال؟

لا تعتذري على لا شيء وشكرا على الثّناء.

أنا من مواليد الجزائر وبها درست وتخرّجت قبل التّوجّه إلى باريس مضطرّة. فتكويني محلّيّ محض يعود فضله إلى أساتذة أغلبهم من منطقة القبائل والهضاب.

ولمّا دخلت هذه الدّيار، جعلت أدرّس اللّغة العربيّة لغير النّاطقين بها وأكثر من المطالعة والبحث حتّى حصلت لي ملكة شجّعتني على الكتابة. ومع ذلك، فما زلت دون المرغوب.

على هذه الصراحة
و دمت وفية للمنتدى نستفيد منك.

يعني أن هذه القصة من إنتاج خيالك

و بالتالي أنت من هواة الكتابة و الإبداع

و هو ما يجعلنا نحظى بمبدعة مثلك

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

بل أنا المحظوظة بتعرّفي إليكم. والصّدق أقول إذ التّملّق ليس من طبعي.

أمّا عن القصّة، فنعم أنا كاتبتها ولكنّها ليست من خيالي. روتها عليّ جدّتي رحمها الله ضمن قصص كثيرة أخرى، خياليّة أو واقعيّة، فألّفتها كلّها في كتاب عنوانه: "حكايات جدّتي" يربو على ستّ مئة صفحة.

وهو في الحقيقة مجمع لكثير من تراث المنطقة: بني شبانة وبني ورثيلان وغيرهما من سائر القرى المتناثرة في تلك الجبال كأعشاش الطّيور، وتصوير لحقبة هامّة من تاريخ الجزائر يمكن أن نحصرها بين القرنين الثّامن عشر والعشرين.

ما إن جمعني الله بكم حتّى عجّلت إلى التّشهير بكم بين زملائي الكتّاب وطلبتي المتميّزين كي يلتحقوا بالمنتديات فينتفعوا وينفعوا.
أرجو إلاّ تشغلهم تكاليف الحياة عن بعض الصّلاح وبعض الخير.

هذا أفضل عمل تقومين به على الإطلاق ، لأن المنتدى حديث النشأة

فهو بحاجة إلى أعضاء مميّزين مثلك لينوروه بمواضيعهم المختلفة،

حتى يحقق أهدافه المرجوة.

ثبّتنا الله على خطى الخير إن شاء الله.

موضوع جيد

.