عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
+3
aissa.b
أبو إلياس
نجمة سيّدأحمد
7 مشترك
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: القســــــــــم العـــــــــــــــــــام :: إبداعات الأعضاء و إصداراتهم
صفحة 1 من اصل 1
عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
هَذِهِ قِصَّةٌ لم تنشر قبل اليوم. فرغت من كتابتها للتوّ وكنت أرجو إنشاءها من سنين وأتثاقل. فكأنّ هذا المنتدى عليّ بركة فحلّت العقدة وسال بها اليراع فهي هديّتي لجميع الأعضاء فجر هذه السّنة الجديدة. أرجو أن تنال إعجاب كثير وإن عافها بعض قليل.
-قِفْ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّبِيِّ...لعلَّه يَدُلُّنا!
وأَوْقَفَ السَّائِقُ سَيَّارَةَ الْجِيبْ حَذْوَ الصَّبِيِّ – وكَانَ طِفْلاً دُونَ الثَّامِنَةِ رُبَّما، يَرْتَدِي جُبَّةً بالِيَةً تَدْخُلُ الرِّيحُ مِنْ أَحَدِ كُمَّيْها وتَخْرُجُ مِنَ الإبِطِ الآخَرِ، عارِيَ السَّاقَيْنِ، حافِيَ الْقَدَمَيْنِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيافَتِهِ شاشِيَةً رَثَّةً يَذْكُرُها آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ عَهْدِ الْخَلِيقَةِ الأَوَّلِ.
سَأَلَهُ الْعَسْكَرِيُّ بِهِمَّةٍ:
-مِنْ أَيِّ الدُّرُوبِ نَتَّخِذُ سَبِيلَنا يا وَلَدُ كَيْ نَخْلُصَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي فُلانٍ؟...هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ...؟ أَمْضَيْنا ساعَةً بَيْنَ هَذِي الثَّنَايَا ولَمْ نُفْلِحْ... أُفٍّ لَهُ مِنْ بَلَدٍ أَقْفَرَ!
فَنَشِطَ الطِّفْلُ إلى رَسْمِ الطَّرِيقِ لَهُمْ وكانَ يَعْرِفُها، بَيْدَ أَنَّهُ ما كانَ يُحْسِنُ غَيْرَ الْقبائِلِيَّةِ، فَهَرْطَقَ شَيْئاً يَحْسَبُهُ لَغُةَ الْقَوْمِ وبَعْدَ جَهْدٍ ونَصَبٍ، يَبْدُو عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ بَعْضاً مِمَّا في بالِهِ وعَجَزَ عَلَيْهِ لِسانُهُ، أَمْ تُرَاهُ بانَ عَنِ الْمُرادِ كُلَّ الْبَوْنِ؟... ما دَرَيْنا إِذْ إِنَّ ذَاكِرَةَ الرُّوَاةِ لم تَحْفَظْ لَنَا هذا، بَيْدَ أَنَّهَا حَفِظَتْ لَنَا بِكَثِيرٍ مِنَ الدِّقَّةِ صُورَةَ أَشْدَاقِ الْعَسْكَرِ وهِيَ تَتَمَطَّى ضَحِكاً، تَنْكَمِشُ وتَسْتَطِيلُ سُخْرِيَةً، تَلْسَعُ عَيْنَيْهِ وأُذُنَيْهِ لَسْعاً بِحَرَكاتٍ لاذِعَةٍ قَبْلَ أَنْ تُمْسِكَ مِسْكَ خِتامٍ:
-أَنْتَ تَتَحَدَّثُ الْفِرَنْسِيَّةَ كَبَقَرَةٍ إِسْبَانِيَةٍ!
وما فَتِئَ أَنْ دَعَسَ السَّائِقُ دَوَّاسَةَ السَّيَّارَةِ فَانْطَلَقَتِ الْجِيبْ تَطِيرُ بَيْنَ الْوِهادِ وسُرْعانَ ما اخْتَفَتْ مُؤَخَّرَتُها فَلَمْ يَبْقَ لَها أَثَرٌ لَوْلاَ قَهْقَهاتُ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ الطَّائِشِينَ، بَيْنَ قِمَمِ جُرْجُرَةَ الشُّمِّ.
إِيْ بِاللهِ، لَمْ يَكُنِ الطِّفْلُ يُحْسِنُ الْفِرَنْسِيَّةَ، ولكنَّ البَقرَةَ الإسْبانِيَّةَ تِلْكَ ارْتَسَمَتْ فِي خَلَدِهِ كَما الطَّيْفِ عَلَى صَفْحَةِ مَاءِ النَّهْرِ أَسْفَلَ الْجُرْفِ، ولَئِنْ لَمْ يَكُنْ يَعِي لُغَةَ الْقَوْمِ فَقَدْ أَدْرَكَ كُلَّ مَعانِي السُّخْرِيَّةِ والْتَّهَكُّمِ فِي نَبْرَةِ أُولَئكَ الْعَسْكَرِ الشَّبَابِ. وانْبَرَى كَسِيرَ الْخاطِرِ، جَرِيحَ النَّفْسِ إلى قرْيَتِهِ "إِسُّومَرَ"، يَسْحَبُ قَدَمَيْهِ الصَّغِيرَتَيْنِ سَحْباً عَلى الْمُنْحَدَرِ، كَأَنَّهُ يَحْمِلُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ نِيراً أَثْقَلَهُ الدَّهْرُ بِكُلِّ هُمُومِ الْخَلِقِ وهُوَ الّذي لَمْ تُشْرِفْ قامَتُهُ عَلى رَبْطَةِ بَصَلٍ أَوْ رَبْطَتَيْنِ... حَتَّى إِذا دَخَلَ صَحْنَ بَيْتِه -وكانَ ابْنَ أَشرافٍ مُرابِطِينَ- عَزَمَ أَنْ يَدْخُلَ مَدْرَسَةَ الآباءِ الْبِيضِ فِي "عَيْنِ الْحَمَّامِ".
يَا لَلْعَارِ! أَوَ يَدْخُلُ ابْنُ الأَشْرافِ مَدْرَسَةَ "الْكَفَرَةِ"؟ كَيْفَ يَتْرُكَ اللَّوْحَةَ والْقَلَمَ فِي مَسْجِدِ الأَجْدَادِ، مَسْجِدٍ تَذْكُرُ حَصائِرُهُ جِلْسَةَ أَبِيهِ وجَدِّهِ وجَدِّ جَدِّهِ، جُلُّهُمْ إِمامٌ ابْنُ إِمَامٍ إلى عَهْدِ فاطِمَةَ ومُحَمَّدِ الطَّاهِرِ الْمِغْوَارَيْنِ، إلَى عَهْدِ أَحْمَدَ الأَوَّلِ، السَّيِّدِ ذِي العِلْمِ النَّوْرانِيِّ الّذي أَزاحَ غُمَّةَ الْجَهْلِ عَنِ الْعُقُولِ، وأَطْلَقَ الْحَناجِرَ بِذِكْرِ اللهِ يَتَرَدَّدُ صَدَاها بَيْنَ الشِّعابِ والْبُطْنانِ فَتَهْتَزُّ لَها جِبالُ جُرْجُرَةَ خاشِعَةً تَكادُ تَتَصَدَّعُ طَرَباً، كَأَنَّ النَّاظِرَ إلَى شِعافِها يُبْصِرُ لَها مَآقِيَ تَدْمَعُ خَشْيَةَ الرَّحْمانِ؟ أَحْمَدَ السَّيِّدِ الّذي أَمَّنَ الدُّرُوبَ والْقِيعانَ فَفَرَّ مِنْها كُلُّ رُوحٍ شِرِّيرَةٍ وجانِّ لَمَّا اسْتَوَى عُودُ الزَّاوِيَةِ الرَّبَّانِيَةِ رِباطَ سِلْمٍ وطُمَأْنِينَةٍ بِبِلادِ أَمَازِيغَ وعَمَّرَها طَلَبَةُ الزِّوَاوَةِ يَبْسُطُونَ أَشِعَّةً مِنْ نُورِ الْمَوْلَى فَيَّاضٍ مَلأَتِ الأَفْئِدَةَ بشاشَةً بِحَلاَوِةِ الإيمانِ.
يا لَلْعارِ! أَوَ يَدْخُلُ ابْنُ الْمُرابِطِينَ دِيرَ الآباءِ الْبِيضِ وقَدْ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ بِانْتِقاضِ وُضُوءِ الْمُسْلِمِ إذا ما صافَحَتْ بَنَانُهُ تِلْكَ الأَنامِلَ "الْقَذِرَةَ" الّتي لَمْ تَتَطَهَّرْ بِوُضُوءٍ ولَمْ تَسْتَوِ عَشْرَتُها عَلَى سَجَّادَةِ صَلاةٍ؟
كَلاَّ وأَبَداً لا يَدْخُلَنَّ سَلِيلُ ذَلِكَ الْبَيْتِ الطِّيِّبِ هاذاكَ الْمَكانَ النَّجِسَ ولَيَنْدُرَنَّ عالِماً يَقْرَأُ الْفُرْقانَ ثُمَّ يُقْرِئُهُ الْعِبَادَ وسيِّدِي خَلِيلاً أَيْضاً والآجَرُّومِيَّةَ فَيُحْفَظَ ماءُ الْوَجْهِ ويَسْتَرْسِلَ الإرْثُ خِلاَلَ حَلَقاتِ السِّلْسِلَةِ حِرْزاً مَحْفُوظاً!
ولَكِنَّ الْبَقَرَةَ الإِسْبانِيَّةَ أَبَتْ عَلَى الطِّفْلِ أَنْ يَرْضَى، بَلْ لَعَلَّ بَعْلَهَا الْفَرَدَ الأَنْدَلُسِيَّ نَفَشَ فِي الْحَلَبَةِ كَالْغُولِ ونَقَرَ الأَرْضَ بِسُنْبُكِهِ يَنْقَعُ الْغُبارَ عِناداً وغَضَباً، فَحَرَنَ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ مَضْرِبَهُ ودَخَلَهُ دِيرَ آباءٍ بِيضٍ فِي "عَيْنِ الْحَمَّامِ" يَدْرُسُهُ لِساناً إِفْرَنْجِيّاً غَرِيباً... لَقَدْ أَقْسَمَ لَيُعَلِّمَنَّهُمْ لُغَتَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيَخْتَلَّنَّ تَوَازُنُ الأَرْضِ دُونَ ذَلِكَ!
وهاهُوَ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ الصَّغِيرُ بَيْنَ يَدَيْ أُولَئِكَ الْقَسَاوِسَةِ -وعَلِمَ اللهُ تَشَدُّدَ أُولَئِكَ النَّصَارَى وتَعَصُّبَهُمْ- فَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ - يَتَامًى وغَيْرِ يَتَامًى- يَتَجَرَّعُ الْحَنْظَلَ عَسَى ورُبَّمَا يَعْتَنِقُ الدِّينَ الصَّحِيحَ. فَكَانَ اسْتِيقَاظٌ قَبْلَ الْفَجْرِ واغْتِسالٌ بِالثَّلْجِ الْقارِسِ يَسْلَخُ جِلْدَ الصُّدُورِ الْعارِيَةِ فَضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ لِمَنْ عَقَّ وأبَى أَنْ يَحْضُرَ الْقُدَّاسَ فِي بِيعَةِ الْمَعْهَدِ.
وكانَ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْخِرْفانِ يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ فَيَرْكَعُ لِلصَّلِيبِ فِرَاراً مِنْ حَرَارَةِ السَّوْطِ عَلَى جِلْدِهِ الرَّقِيقِ الّذِي ما أَبْقَى لَحْماً يَحْمِي عَظْماً، واتِّقاءَ جُوعٍ رَهِيبٍ بِشِقِّ خُبْزٍ أَوْ قَعْبِ حَسَاءٍ شَفَّافٍ مِنْ هُزَالٍ، ورُبَّما رَتَّلَ بَعْضُهُمْ مِنَ السِّفْرِ الْقَدِيمِ أَوِ الْجَدِيدِ رِياءً وقَدْ قِيلَ "دَارِهِمْ ما دُمْتَ فِي دَارِهِمْ" عَسَى يُفَرِّجِ اللهُ عَنْ قَرِيبٍ فَتُلْقَى أَقْنِعَةُ التَّمْثِيلِيَّةِ بَعِيداً، ورُبَّما آمَنَ بَعْضُهُمْ بِالثَّالُوثِ ورَقَّتْ لَهُ شِغافُ أَفْئِدَتِهِمْ ولَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهُ هِدَايَةً تُخْرِجِهُمْ مِنْ ضَلاَلٍ.
ولَكِنَّ ابْنَ الْمُرَابِطِينَ لَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى دِينٍ، ولاَ فِي عَوَزٍ إلَى خُبْزٍ ولا مُلْتَمِساً أُمَّهاتٍ وآبَاءً يُسْتَعِيضُ بِهِمْ عَنْ عَشِيرَةٍ ذَهَبَتْ بِهَا شَعُوبُ إلَى بَرْزَخٍ بِلاَ رُجُوعٍ. كلاَّ، هَذا الطِّفْلُ الصَّغِيرُ سَيِّدٌ فِي قَوْمِهِ، سَيِّدٌ فِي نَفْسِهِ، سَيِّدٌ فِي بَالِهِ، ما تَاهَتْ بِهِ السُّبُلُ حَتَّى خَلَصَ إلَى ذَلِكَ الْمَكانِ بَيْنَ تِلْكَ الأظْهُرِ الْغَرِيبَةِ عَسَى أَنْ تُوقِدَ لَهُ الْمَنارَ يَرْشُدْ بِهِ. هَذا الطِّفْلُ ما جاءَ سِوَى لِوَاحِدَةٍ فَرِيدَةٍ: حِفْظُ لِسَانِ الْقَوْمِ فَيُلَقِّنَهُمْ إِيَّاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، مَا جَاءَ إلاَّ لِيُفَنِّدَ زَعْمَ أُولَئِكَ الْفِتْيَةَ الْمُتَهَوِّرِينَ لَمَّا جَرُؤُوا وشَبَّهُوهُ بِبَقَرَةِ إِسْبَنْيُولْ!
إِنَّهُ فَتًى مِنَ الْجِبالِ، قَلْبُهُ شَدِيدٌ كَصُخُورِها، ورَأْسُهُ جَافٌّ كَصَفْوَاناتِها ، وكِبْرِياؤُهُ -عَلَى يَفَاعَتِهِ- شَامِخَةٌ كَقِمَمِها الْمُنْتَصِبَةِ فِي "وَرْجَةَ وإِيشَرِّيذَنَ"، وعَزِيمَتُهُ ماضِيَةٌ كَأَسْلاَفِهِ الْمَيَامِينِ يُقَرْقِعُونَ السُّيُوفَ ويُرْقِصُونَ الْبَارُودَ في "مَلِّيكَشَ"، ولَيْسَ عَلَى الأَرْضِ مَخْلُوقٌ يَهْزَأُ بِهِ، ولَيْسَ في الْخَلِيقَةِ مَنْ يَأْمُرُهُ بِدِينٍ يَتَّبِعُهُ أَوْ يُثْنِيهِ عَنْ عَزْمٍ اِمْتَطَاهُ، إِلاَّ بِشُرُوطٍ سَبَقَ وأَمْلاَها هُوَ ولَوْ كانَ قَدُّهُ لا يَزِيدُ عَلى رَبْطَةِ بَصَلٍ أَوْ رَبْطَتَيْنِ...
فَلْتَذْهَبِ الثُّلُوجُ الْقاسِيَةُ تَسْلَخُ صَدْرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ فَإنَّهُ ابْنُ تِلْكَ الْبِلاَدِ، تَعَوَّدَ أَنْ يَقْصِدَ مَسْجِدَ الْقَرْيَةِ وَصَيْحَةَ الدِّيكِ ولَيْسَ لَهُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ سَوِى ذَلِكَ الْجَلِيدِ؛ ولْيَذْهَبِ الْجُوعُ إلى الْجَحِيمِ فَإنَّهُ مِنْ أُمَّةٍ إِذا أَكَلَتْ لَمْ تَشْبَعْ، ثُمَّ إِنَّ بِلاَدَ الْقَبائِلِ مُقْتِرَةٌ شِحِّيحَةٌ عَلَّمَتْ عُشَّاقَها الْعَفافَ والْكَفافَ إِذا هُمُ ابْتَغَوْا لِوُدِّها دَوَاماً، ومَنْ لَمْ يُرْضِهِ فَلْيَرْحَلْ بَعِيداً عَنْها بابُ السَّدِّ لا يَرُدُّ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الرُّومَ، مِنْ ساعَةِ مَا وَطِئَتْ أَقْدَامُهُمْ تُرَابَ "ثامُرْثْ" ، لَمْ يَخَلِّفُوا بِهَا ما تُمْلأُ بِهِ الْكَوَافَى عَوْلاً زاخِراً؛ وأَمَّا السِّيَاطُ فَطُولُ مُعاشَرَتِهِ لِلدَّوَابِّ عَلَّمَهُ الصَّبْرَ عَلَيْها، كَيْفَ لاَ وابْنُ الْمَرابِطِينَ يَنامُ مَعها ويَقُومُ مَعَها ويرْعاها ورُبَّما آثَرَها على كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْيَادِهِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهَا صَلَوَاتُ اللهِ وسَلاَمُهُ؟ إِنَّهُ يُجاوِرُها وتُجاوِرُهُ في الْحالِةِ والدَّايْنِينْ ! أَمَّا لُغَةُ الْقَوْمِ تِلْكَ، وأَمَّا الْبَقَرَةُ الإسْبَانِيَةُ هاذِيكَ، فَلأَجْلِهِما جاءَ الدِّيرَ ولأَمْرِهِما تَحَزَّمَ وبَيْنَهُ وبَيْنَهُمَا زَمَنٌ طَوِيلٌ لا يُهِمُّهُ ما سَيَسْلَخُ فِيهِ مِنْ سَنَوَاتٍ ورَبِّ الْعِزَّةِ!
وكَذَلِكَ كَانَ، وصَبَرَ الصَّبِيُّ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ عَلى الضَّيْمِ والأَذَى، وكَذَلِكَ الْغُلاَمُ بَعْدَهُ والْفَتَى، وغَدَا رَأْساً نَاشِفاً لاَ يَعِي إلاَّ ما فِي كُتُبِهِ فَفَقَسَ قُلُوبَ الْقَسَاوِسَةِ وأَرْضَى، وغَرَسَ جَبِينَهُ فِي مَكْتَبَةِ الدِّيرِ الثَّرِيَّةِ يَلْتَهِمُ نُسَخَهَا الْتِهاماً، ورُبَّمَا نَسِيَ وَاجِباتِهِ الأُخْرَى وأَهْمَلَ، وحَفِظَ أَسْرَارَهَا، ومِمَّا بَيْنَ طَيَّاتِها تَضَلَّعَ وفَاضَ، حَتَّى اسْتَوَى رَجُلاً شَدِيدَ الْعُودِ، مَمْلُوءَ الْعَقْلِ والْفُؤَادِ، وَقُورَ الْمَنْظَرِ، فِي عَيْنَيْهِ هَيْبَةُ هِرَقْلَ وهِيكْتُورَ وآشِيلَ وما ابْتَكَرَتْها مُخَيِّلَةُ هُومِيرُوسَ مِنْ أَبْطَالٍ وَثَنِيِّينَ يُنَازِعُونَ آلِهَةِ الأُولَمْبِ القُوَّةَ والْجَبَرُوتَ. كَيْفَ لا وقَدْ غَدَا ذَلِكَ الطِّفْلُ الْحافِي الْعارِي الشَّبِيهُ بِالْبَقَرَةِ الإِسْبَانِيَةِ إِذَا نَطَقَتِ الإفْرَنْجِيَّةَ، عالِماً فِي لُغاتِ أَثِينَّا ورُوما وبَارِيسَ لا أَحَدَ يَبَزُّهُ فِي هَذا أَوْ يَجْرُؤُ؟ بَلْ وتَزَوَّجَها فِرَنْسِيَّةً كَاثُولِيكِيَّةً يُوَضِّحُ لَهَا مَا اسْتَغْلَقَ عَلَيْها مِنْ إنِجِيلِهَا –هُوَ الْمُسْلِمَ الْمُحَمَّدِيَّ- إِذْ كَثِيراً ما كانَ يَسْتَغْلِقُ عَلَيْها لِمَا جَهِلَتْهُ مِنْ لُغَتِهِ إلآّ اللَّمَمَ!
إِيْ بِاللهِ! "مَنْ حَفِظَ لُغَةَ قَوْمٍ أَمِنَ شَرَّهُمْ" ومَنْ عَلِمَ لِسانَ قَوْمٍ سَادَهُمْ!
عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
-قِفْ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّبِيِّ...لعلَّه يَدُلُّنا!
وأَوْقَفَ السَّائِقُ سَيَّارَةَ الْجِيبْ حَذْوَ الصَّبِيِّ – وكَانَ طِفْلاً دُونَ الثَّامِنَةِ رُبَّما، يَرْتَدِي جُبَّةً بالِيَةً تَدْخُلُ الرِّيحُ مِنْ أَحَدِ كُمَّيْها وتَخْرُجُ مِنَ الإبِطِ الآخَرِ، عارِيَ السَّاقَيْنِ، حافِيَ الْقَدَمَيْنِ، لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيافَتِهِ شاشِيَةً رَثَّةً يَذْكُرُها آدَمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مِنْ عَهْدِ الْخَلِيقَةِ الأَوَّلِ.
سَأَلَهُ الْعَسْكَرِيُّ بِهِمَّةٍ:
-مِنْ أَيِّ الدُّرُوبِ نَتَّخِذُ سَبِيلَنا يا وَلَدُ كَيْ نَخْلُصَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي فُلانٍ؟...هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ...؟ أَمْضَيْنا ساعَةً بَيْنَ هَذِي الثَّنَايَا ولَمْ نُفْلِحْ... أُفٍّ لَهُ مِنْ بَلَدٍ أَقْفَرَ!
فَنَشِطَ الطِّفْلُ إلى رَسْمِ الطَّرِيقِ لَهُمْ وكانَ يَعْرِفُها، بَيْدَ أَنَّهُ ما كانَ يُحْسِنُ غَيْرَ الْقبائِلِيَّةِ، فَهَرْطَقَ شَيْئاً يَحْسَبُهُ لَغُةَ الْقَوْمِ وبَعْدَ جَهْدٍ ونَصَبٍ، يَبْدُو عَلَيْهِ أَنَّهُ أَبْلَغَهُمْ بَعْضاً مِمَّا في بالِهِ وعَجَزَ عَلَيْهِ لِسانُهُ، أَمْ تُرَاهُ بانَ عَنِ الْمُرادِ كُلَّ الْبَوْنِ؟... ما دَرَيْنا إِذْ إِنَّ ذَاكِرَةَ الرُّوَاةِ لم تَحْفَظْ لَنَا هذا، بَيْدَ أَنَّهَا حَفِظَتْ لَنَا بِكَثِيرٍ مِنَ الدِّقَّةِ صُورَةَ أَشْدَاقِ الْعَسْكَرِ وهِيَ تَتَمَطَّى ضَحِكاً، تَنْكَمِشُ وتَسْتَطِيلُ سُخْرِيَةً، تَلْسَعُ عَيْنَيْهِ وأُذُنَيْهِ لَسْعاً بِحَرَكاتٍ لاذِعَةٍ قَبْلَ أَنْ تُمْسِكَ مِسْكَ خِتامٍ:
-أَنْتَ تَتَحَدَّثُ الْفِرَنْسِيَّةَ كَبَقَرَةٍ إِسْبَانِيَةٍ!
وما فَتِئَ أَنْ دَعَسَ السَّائِقُ دَوَّاسَةَ السَّيَّارَةِ فَانْطَلَقَتِ الْجِيبْ تَطِيرُ بَيْنَ الْوِهادِ وسُرْعانَ ما اخْتَفَتْ مُؤَخَّرَتُها فَلَمْ يَبْقَ لَها أَثَرٌ لَوْلاَ قَهْقَهاتُ أُولَئِكَ الْفِتْيَةِ الطَّائِشِينَ، بَيْنَ قِمَمِ جُرْجُرَةَ الشُّمِّ.
إِيْ بِاللهِ، لَمْ يَكُنِ الطِّفْلُ يُحْسِنُ الْفِرَنْسِيَّةَ، ولكنَّ البَقرَةَ الإسْبانِيَّةَ تِلْكَ ارْتَسَمَتْ فِي خَلَدِهِ كَما الطَّيْفِ عَلَى صَفْحَةِ مَاءِ النَّهْرِ أَسْفَلَ الْجُرْفِ، ولَئِنْ لَمْ يَكُنْ يَعِي لُغَةَ الْقَوْمِ فَقَدْ أَدْرَكَ كُلَّ مَعانِي السُّخْرِيَّةِ والْتَّهَكُّمِ فِي نَبْرَةِ أُولَئكَ الْعَسْكَرِ الشَّبَابِ. وانْبَرَى كَسِيرَ الْخاطِرِ، جَرِيحَ النَّفْسِ إلى قرْيَتِهِ "إِسُّومَرَ"، يَسْحَبُ قَدَمَيْهِ الصَّغِيرَتَيْنِ سَحْباً عَلى الْمُنْحَدَرِ، كَأَنَّهُ يَحْمِلُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ نِيراً أَثْقَلَهُ الدَّهْرُ بِكُلِّ هُمُومِ الْخَلِقِ وهُوَ الّذي لَمْ تُشْرِفْ قامَتُهُ عَلى رَبْطَةِ بَصَلٍ أَوْ رَبْطَتَيْنِ... حَتَّى إِذا دَخَلَ صَحْنَ بَيْتِه -وكانَ ابْنَ أَشرافٍ مُرابِطِينَ- عَزَمَ أَنْ يَدْخُلَ مَدْرَسَةَ الآباءِ الْبِيضِ فِي "عَيْنِ الْحَمَّامِ".
يَا لَلْعَارِ! أَوَ يَدْخُلُ ابْنُ الأَشْرافِ مَدْرَسَةَ "الْكَفَرَةِ"؟ كَيْفَ يَتْرُكَ اللَّوْحَةَ والْقَلَمَ فِي مَسْجِدِ الأَجْدَادِ، مَسْجِدٍ تَذْكُرُ حَصائِرُهُ جِلْسَةَ أَبِيهِ وجَدِّهِ وجَدِّ جَدِّهِ، جُلُّهُمْ إِمامٌ ابْنُ إِمَامٍ إلى عَهْدِ فاطِمَةَ ومُحَمَّدِ الطَّاهِرِ الْمِغْوَارَيْنِ، إلَى عَهْدِ أَحْمَدَ الأَوَّلِ، السَّيِّدِ ذِي العِلْمِ النَّوْرانِيِّ الّذي أَزاحَ غُمَّةَ الْجَهْلِ عَنِ الْعُقُولِ، وأَطْلَقَ الْحَناجِرَ بِذِكْرِ اللهِ يَتَرَدَّدُ صَدَاها بَيْنَ الشِّعابِ والْبُطْنانِ فَتَهْتَزُّ لَها جِبالُ جُرْجُرَةَ خاشِعَةً تَكادُ تَتَصَدَّعُ طَرَباً، كَأَنَّ النَّاظِرَ إلَى شِعافِها يُبْصِرُ لَها مَآقِيَ تَدْمَعُ خَشْيَةَ الرَّحْمانِ؟ أَحْمَدَ السَّيِّدِ الّذي أَمَّنَ الدُّرُوبَ والْقِيعانَ فَفَرَّ مِنْها كُلُّ رُوحٍ شِرِّيرَةٍ وجانِّ لَمَّا اسْتَوَى عُودُ الزَّاوِيَةِ الرَّبَّانِيَةِ رِباطَ سِلْمٍ وطُمَأْنِينَةٍ بِبِلادِ أَمَازِيغَ وعَمَّرَها طَلَبَةُ الزِّوَاوَةِ يَبْسُطُونَ أَشِعَّةً مِنْ نُورِ الْمَوْلَى فَيَّاضٍ مَلأَتِ الأَفْئِدَةَ بشاشَةً بِحَلاَوِةِ الإيمانِ.
يا لَلْعارِ! أَوَ يَدْخُلُ ابْنُ الْمُرابِطِينَ دِيرَ الآباءِ الْبِيضِ وقَدْ أَفْتَى الْعُلَمَاءُ بِانْتِقاضِ وُضُوءِ الْمُسْلِمِ إذا ما صافَحَتْ بَنَانُهُ تِلْكَ الأَنامِلَ "الْقَذِرَةَ" الّتي لَمْ تَتَطَهَّرْ بِوُضُوءٍ ولَمْ تَسْتَوِ عَشْرَتُها عَلَى سَجَّادَةِ صَلاةٍ؟
كَلاَّ وأَبَداً لا يَدْخُلَنَّ سَلِيلُ ذَلِكَ الْبَيْتِ الطِّيِّبِ هاذاكَ الْمَكانَ النَّجِسَ ولَيَنْدُرَنَّ عالِماً يَقْرَأُ الْفُرْقانَ ثُمَّ يُقْرِئُهُ الْعِبَادَ وسيِّدِي خَلِيلاً أَيْضاً والآجَرُّومِيَّةَ فَيُحْفَظَ ماءُ الْوَجْهِ ويَسْتَرْسِلَ الإرْثُ خِلاَلَ حَلَقاتِ السِّلْسِلَةِ حِرْزاً مَحْفُوظاً!
ولَكِنَّ الْبَقَرَةَ الإِسْبانِيَّةَ أَبَتْ عَلَى الطِّفْلِ أَنْ يَرْضَى، بَلْ لَعَلَّ بَعْلَهَا الْفَرَدَ الأَنْدَلُسِيَّ نَفَشَ فِي الْحَلَبَةِ كَالْغُولِ ونَقَرَ الأَرْضَ بِسُنْبُكِهِ يَنْقَعُ الْغُبارَ عِناداً وغَضَباً، فَحَرَنَ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ مَضْرِبَهُ ودَخَلَهُ دِيرَ آباءٍ بِيضٍ فِي "عَيْنِ الْحَمَّامِ" يَدْرُسُهُ لِساناً إِفْرَنْجِيّاً غَرِيباً... لَقَدْ أَقْسَمَ لَيُعَلِّمَنَّهُمْ لُغَتَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيَخْتَلَّنَّ تَوَازُنُ الأَرْضِ دُونَ ذَلِكَ!
وهاهُوَ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ الصَّغِيرُ بَيْنَ يَدَيْ أُولَئِكَ الْقَسَاوِسَةِ -وعَلِمَ اللهُ تَشَدُّدَ أُولَئِكَ النَّصَارَى وتَعَصُّبَهُمْ- فَكَانَ كَغَيْرِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ - يَتَامًى وغَيْرِ يَتَامًى- يَتَجَرَّعُ الْحَنْظَلَ عَسَى ورُبَّمَا يَعْتَنِقُ الدِّينَ الصَّحِيحَ. فَكَانَ اسْتِيقَاظٌ قَبْلَ الْفَجْرِ واغْتِسالٌ بِالثَّلْجِ الْقارِسِ يَسْلَخُ جِلْدَ الصُّدُورِ الْعارِيَةِ فَضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ لِمَنْ عَقَّ وأبَى أَنْ يَحْضُرَ الْقُدَّاسَ فِي بِيعَةِ الْمَعْهَدِ.
وكانَ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْخِرْفانِ يُغْلَبُ عَلَى أَمْرِهِ فَيَرْكَعُ لِلصَّلِيبِ فِرَاراً مِنْ حَرَارَةِ السَّوْطِ عَلَى جِلْدِهِ الرَّقِيقِ الّذِي ما أَبْقَى لَحْماً يَحْمِي عَظْماً، واتِّقاءَ جُوعٍ رَهِيبٍ بِشِقِّ خُبْزٍ أَوْ قَعْبِ حَسَاءٍ شَفَّافٍ مِنْ هُزَالٍ، ورُبَّما رَتَّلَ بَعْضُهُمْ مِنَ السِّفْرِ الْقَدِيمِ أَوِ الْجَدِيدِ رِياءً وقَدْ قِيلَ "دَارِهِمْ ما دُمْتَ فِي دَارِهِمْ" عَسَى يُفَرِّجِ اللهُ عَنْ قَرِيبٍ فَتُلْقَى أَقْنِعَةُ التَّمْثِيلِيَّةِ بَعِيداً، ورُبَّما آمَنَ بَعْضُهُمْ بِالثَّالُوثِ ورَقَّتْ لَهُ شِغافُ أَفْئِدَتِهِمْ ولَمْ يَعْرِفُوا غَيْرَهُ هِدَايَةً تُخْرِجِهُمْ مِنْ ضَلاَلٍ.
ولَكِنَّ ابْنَ الْمُرَابِطِينَ لَمْ يَكُنْ بِحَاجَةٍ إِلَى دِينٍ، ولاَ فِي عَوَزٍ إلَى خُبْزٍ ولا مُلْتَمِساً أُمَّهاتٍ وآبَاءً يُسْتَعِيضُ بِهِمْ عَنْ عَشِيرَةٍ ذَهَبَتْ بِهَا شَعُوبُ إلَى بَرْزَخٍ بِلاَ رُجُوعٍ. كلاَّ، هَذا الطِّفْلُ الصَّغِيرُ سَيِّدٌ فِي قَوْمِهِ، سَيِّدٌ فِي نَفْسِهِ، سَيِّدٌ فِي بَالِهِ، ما تَاهَتْ بِهِ السُّبُلُ حَتَّى خَلَصَ إلَى ذَلِكَ الْمَكانِ بَيْنَ تِلْكَ الأظْهُرِ الْغَرِيبَةِ عَسَى أَنْ تُوقِدَ لَهُ الْمَنارَ يَرْشُدْ بِهِ. هَذا الطِّفْلُ ما جاءَ سِوَى لِوَاحِدَةٍ فَرِيدَةٍ: حِفْظُ لِسَانِ الْقَوْمِ فَيُلَقِّنَهُمْ إِيَّاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، مَا جَاءَ إلاَّ لِيُفَنِّدَ زَعْمَ أُولَئِكَ الْفِتْيَةَ الْمُتَهَوِّرِينَ لَمَّا جَرُؤُوا وشَبَّهُوهُ بِبَقَرَةِ إِسْبَنْيُولْ!
إِنَّهُ فَتًى مِنَ الْجِبالِ، قَلْبُهُ شَدِيدٌ كَصُخُورِها، ورَأْسُهُ جَافٌّ كَصَفْوَاناتِها ، وكِبْرِياؤُهُ -عَلَى يَفَاعَتِهِ- شَامِخَةٌ كَقِمَمِها الْمُنْتَصِبَةِ فِي "وَرْجَةَ وإِيشَرِّيذَنَ"، وعَزِيمَتُهُ ماضِيَةٌ كَأَسْلاَفِهِ الْمَيَامِينِ يُقَرْقِعُونَ السُّيُوفَ ويُرْقِصُونَ الْبَارُودَ في "مَلِّيكَشَ"، ولَيْسَ عَلَى الأَرْضِ مَخْلُوقٌ يَهْزَأُ بِهِ، ولَيْسَ في الْخَلِيقَةِ مَنْ يَأْمُرُهُ بِدِينٍ يَتَّبِعُهُ أَوْ يُثْنِيهِ عَنْ عَزْمٍ اِمْتَطَاهُ، إِلاَّ بِشُرُوطٍ سَبَقَ وأَمْلاَها هُوَ ولَوْ كانَ قَدُّهُ لا يَزِيدُ عَلى رَبْطَةِ بَصَلٍ أَوْ رَبْطَتَيْنِ...
فَلْتَذْهَبِ الثُّلُوجُ الْقاسِيَةُ تَسْلَخُ صَدْرَهُ إِلَى الْجَحِيمِ فَإنَّهُ ابْنُ تِلْكَ الْبِلاَدِ، تَعَوَّدَ أَنْ يَقْصِدَ مَسْجِدَ الْقَرْيَةِ وَصَيْحَةَ الدِّيكِ ولَيْسَ لَهُ ما يَتَوَضَّأُ بِهِ سَوِى ذَلِكَ الْجَلِيدِ؛ ولْيَذْهَبِ الْجُوعُ إلى الْجَحِيمِ فَإنَّهُ مِنْ أُمَّةٍ إِذا أَكَلَتْ لَمْ تَشْبَعْ، ثُمَّ إِنَّ بِلاَدَ الْقَبائِلِ مُقْتِرَةٌ شِحِّيحَةٌ عَلَّمَتْ عُشَّاقَها الْعَفافَ والْكَفافَ إِذا هُمُ ابْتَغَوْا لِوُدِّها دَوَاماً، ومَنْ لَمْ يُرْضِهِ فَلْيَرْحَلْ بَعِيداً عَنْها بابُ السَّدِّ لا يَرُدُّ، ثُمَّ إِنَّ أُولَئِكَ الرُّومَ، مِنْ ساعَةِ مَا وَطِئَتْ أَقْدَامُهُمْ تُرَابَ "ثامُرْثْ" ، لَمْ يَخَلِّفُوا بِهَا ما تُمْلأُ بِهِ الْكَوَافَى عَوْلاً زاخِراً؛ وأَمَّا السِّيَاطُ فَطُولُ مُعاشَرَتِهِ لِلدَّوَابِّ عَلَّمَهُ الصَّبْرَ عَلَيْها، كَيْفَ لاَ وابْنُ الْمَرابِطِينَ يَنامُ مَعها ويَقُومُ مَعَها ويرْعاها ورُبَّما آثَرَها على كَثِيرٍ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْيَادِهِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهَا صَلَوَاتُ اللهِ وسَلاَمُهُ؟ إِنَّهُ يُجاوِرُها وتُجاوِرُهُ في الْحالِةِ والدَّايْنِينْ ! أَمَّا لُغَةُ الْقَوْمِ تِلْكَ، وأَمَّا الْبَقَرَةُ الإسْبَانِيَةُ هاذِيكَ، فَلأَجْلِهِما جاءَ الدِّيرَ ولأَمْرِهِما تَحَزَّمَ وبَيْنَهُ وبَيْنَهُمَا زَمَنٌ طَوِيلٌ لا يُهِمُّهُ ما سَيَسْلَخُ فِيهِ مِنْ سَنَوَاتٍ ورَبِّ الْعِزَّةِ!
وكَذَلِكَ كَانَ، وصَبَرَ الصَّبِيُّ مُحَمَّدُ السَّعِيدُ عَلى الضَّيْمِ والأَذَى، وكَذَلِكَ الْغُلاَمُ بَعْدَهُ والْفَتَى، وغَدَا رَأْساً نَاشِفاً لاَ يَعِي إلاَّ ما فِي كُتُبِهِ فَفَقَسَ قُلُوبَ الْقَسَاوِسَةِ وأَرْضَى، وغَرَسَ جَبِينَهُ فِي مَكْتَبَةِ الدِّيرِ الثَّرِيَّةِ يَلْتَهِمُ نُسَخَهَا الْتِهاماً، ورُبَّمَا نَسِيَ وَاجِباتِهِ الأُخْرَى وأَهْمَلَ، وحَفِظَ أَسْرَارَهَا، ومِمَّا بَيْنَ طَيَّاتِها تَضَلَّعَ وفَاضَ، حَتَّى اسْتَوَى رَجُلاً شَدِيدَ الْعُودِ، مَمْلُوءَ الْعَقْلِ والْفُؤَادِ، وَقُورَ الْمَنْظَرِ، فِي عَيْنَيْهِ هَيْبَةُ هِرَقْلَ وهِيكْتُورَ وآشِيلَ وما ابْتَكَرَتْها مُخَيِّلَةُ هُومِيرُوسَ مِنْ أَبْطَالٍ وَثَنِيِّينَ يُنَازِعُونَ آلِهَةِ الأُولَمْبِ القُوَّةَ والْجَبَرُوتَ. كَيْفَ لا وقَدْ غَدَا ذَلِكَ الطِّفْلُ الْحافِي الْعارِي الشَّبِيهُ بِالْبَقَرَةِ الإِسْبَانِيَةِ إِذَا نَطَقَتِ الإفْرَنْجِيَّةَ، عالِماً فِي لُغاتِ أَثِينَّا ورُوما وبَارِيسَ لا أَحَدَ يَبَزُّهُ فِي هَذا أَوْ يَجْرُؤُ؟ بَلْ وتَزَوَّجَها فِرَنْسِيَّةً كَاثُولِيكِيَّةً يُوَضِّحُ لَهَا مَا اسْتَغْلَقَ عَلَيْها مِنْ إنِجِيلِهَا –هُوَ الْمُسْلِمَ الْمُحَمَّدِيَّ- إِذْ كَثِيراً ما كانَ يَسْتَغْلِقُ عَلَيْها لِمَا جَهِلَتْهُ مِنْ لُغَتِهِ إلآّ اللَّمَمَ!
إِيْ بِاللهِ! "مَنْ حَفِظَ لُغَةَ قَوْمٍ أَمِنَ شَرَّهُمْ" ومَنْ عَلِمَ لِسانَ قَوْمٍ سَادَهُمْ!
نجمة سيّد أحمد
31/12/2010
31/12/2010
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
شكرًا لك على هذه الهديّة التي آثرتِ بها منتدانا حصريًا على غيره.
نَعْتُ الفتى بالبقرة الإسبانية وراء تعلّمه لتلك اللّغات على صعوبتها،
بعزيمته الفولاذية التي لا تُقهر.
قال الله تعالى : << يا أيّها الذين آمنوا لا يسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ..>>
الآية -11- من سورة الحجرات
نَعْتُ الفتى بالبقرة الإسبانية وراء تعلّمه لتلك اللّغات على صعوبتها،
بعزيمته الفولاذية التي لا تُقهر.
قال الله تعالى : << يا أيّها الذين آمنوا لا يسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ..>>
الآية -11- من سورة الحجرات
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
فعلا، لولا ذلك لما تعلّمها ولما خرج من تكوينه التّقليديّ إلى ثقافات العالم ربّما.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
على هذه الهدية انها قصة جميلة جدا
لقد نالت اعجابي
لقد نالت اعجابي
aissa.b- عضو برونزي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 19/11/2010
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 885
الـمــــــــــــزاج : هادىء
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
يا عيسى.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
عاشق الجنه- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 27/03/2010
عـــدد المساهمـــات : 1234
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
العزيمة لا تعترف بالمستحيل
عبد الله- عضو نشيط
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 25/09/2009
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 201
الـمــــــــــــزاج : متقلب
رد: عَزِيمَةٌ فُولاَذِيَّةٌ
دمت متميزة دائما نجمة متلئلئة في هذا المنتدى الرائع
المزيد من الاستحقاقات
المزيد من الاستحقاقات
كمال- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 1127
الـمــــــــــــزاج : دائما احسن
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: القســــــــــم العـــــــــــــــــــام :: إبداعات الأعضاء و إصداراتهم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2016, 19:32 من طرف أبو إلياس
» الله هو الغنيُّ المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:29 من طرف أبو إلياس
» صفة من صفات أهل الإسلام
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:27 من طرف أبو إلياس
» آداب الإنترنت: فنون المعاتبة .. ومعالجة الأخطاء
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:26 من طرف أبو إلياس
» مركز اللغات بجامعة المدينة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 18:35 من طرف أبو إلياس
» مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 00:34 من طرف Nassima Tlemcen
» aidez-moi vite svp
الثلاثاء 12 يناير 2016, 16:30 من طرف أبو إلياس
» حوليات وزارة التربية 2012 في العلوم الطبيعية
الجمعة 04 ديسمبر 2015, 13:04 من طرف lynda2013
» لمـــــــــــــــــــاذا تبـــــــكي النّســـــــــــــــــــاء
الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 18:46 من طرف أبو إلياس