الْمُدُنُ الإِسْلاَمِيَّةُ كَيْفَ كَانَ تَخْطِيطُهَا وَبِنَاؤُهَا

عِنْدَمَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِفَتْحِ الْبُلْدَانِ شَرْقاً وغَرْباً لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا وَجَدُوا فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ مِنْ مُدُنٍ عَامِرَةٍ ذَاتِ أَبْنِيَةٍ فَخْمَةٍ بَلْ أَرَادُوا أَنْ يُؤَسِّسُوا بِأَنْفُسِهِمْ مُدُناً جَدِيدَةً حَسَبَ طِرَازِ مَعَاشِهِمْ ونِظَامِ مُجْتَمَعِهِمْ، فَجَعَلُوا تِلْكَ الْمُدُنَ مَرَاكِزَ لِحُكُومَاتِهِمْ فِي تِلْكَ الْبِلاَدِ، وعِنْدَ قِيَامِهِمْ بِبِنَاءِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَضَعُوا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْمُدُنُ الأُولَى الَّتِي أَسَّسُوهَا بَسِيطَةً فِي مَادَّةِ الْبِنَاءِ تَوْفِيراً لِلْمَالِ الْمُخَصَّصِ لِلْحُرُوبِ والْفُتُوحاتِ، وأَنْ تُؤَسَّسَ هَذِهِ الْمُدَنُ فِي مَوَاقِعَ يَسْهُلُ مَعَهَا الاِتِّصالُ بِمَرْكَزِ الْخِلاَفَةِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وأَنْ يَخْتَارَ الْقُوَّادُ أَصْلَحَ الْمَوَاقِعِ الْجَغْرَافِيَّةِ لِهَذِهِ الْمُدُنِ مِنْ حَيْثُ الْجَوُّ وتَوفُّرُ الْمَاءِ وَوَسائِلِ الْعَيْشِ وطُرُقِ الْمُوَاصَلاَتِ.
وكَانَ الَّذِينَ يُخَطِّطُونَ لِبِنَاءِ الْمُدُنِ يُرَاعُونَ أَنْ تَكُونَ مَرَاكِزُ الْحُكُومَةِ ودُورُ الإِمَارَةِ والْمَسَاجِدُ والدَّوَاوِينُ فِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ لِتَسْهِيلِ اِتِّصالِ النَّاسِ بِهَذِهِ الأَمَاكِنِ فَيَتَسَنَّى لَهُمْ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ مِنْ جِهَةٍ، ومُرَاجَعَةُ الدَّوَاوِينِ لِقَضاءِ مَصَالِحِهِمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وكَانُوا يَهْتَمُّونَ كَذَلِكَ بِوَسَائِلِ التَّرْفِيهِ لِلسُّكَّانِ، وبِتَجْمِيلِ السَّاحَاتِ الْعامَّةِ بِالأَشْجَارِ والْبِرَكِ الْمَائِيَّةِ والْحَدَائِقِ ومَيَادِينِ الأَلْعَابِ الْمُخْتَلِفَةِ وأَمَاكِنِ الرَّاحَةِ والاِسْتِجْمَامِ، وكَانُوا يُقِيمُونَ الأَسْوَارَ والْخَنَادِقَ حَوْلَ الْمُدُنِ إِذَا اقْتَضَى الأَمْرُ لِلدِّفَاعِ عَنْهَا وَقْتَ الْحُرُوبِ وتَسْهِيلِ جَمِيعِ وَسَائِلِ الرَّاحَةِ والْعَيْشِ لِلسُّكَّانِ فِي حَالَةِ الْحِصَارِ.
ويَذْكُرُ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ الْمُخَطَّطَاتِ لِهَذِهِ الْمُدُنِ كَانَتْ لا تَتِمُّ إلاَّ بَعْدَ دِرَاسَةٍ دَقِيقَةٍ، فَكَانَتْ تُرْسَمُ عَلَى الْوَرَقِ والْجُلُودِ والأَقْمِشَةِ، ويُعْمَلُ لِمَبَانِيهَا الْمُجَسَّمَاتُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُهَنْدِسُونَ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وقَدْ أَدْرَكَ الْمُهَنْدِسُ الْمُسْلِمُ أَهَمِّيَّةَ وُجُودِ شَارِعٍ عَظِيمٍ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مِنَ الْمُدُنِ، تَتَفَرَّعُ مِنْهُ الشَّوَارِعُ الْجَانِبِيَّةُ ويَتَوَسَّطُ هَذَا الشَّارِعَ الْعَظِيمَ مَيْدَانٌ وَاسِعٌ فِيهِ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ الكَبِيرُ ودَارُ الإِمَارَةِ (الْحُكْمِ).
مَدِينَةُ الْبَصْرَةِ
الْبَصْرَةُ أَوّلُ مَدِينَةٍ أَسَّسَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ الْعِرَاقِ زَمَنَ الْخَلِيفَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ(ض) عام 16ه/635م وقَدْ جَعَلُوهَا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ نَهْرِ الْفُرَاتِ فِي مَكَانٍ لاَ يَفْصِلُ الْمَاءُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عَاصِمَةِ الْمُسْلِمِينَ الأُولَى. بُنْيَتِ الْبَصْرَةُ بَشَكْلٍ مُسْتَطِيلٍ وعُرْضُ شَارِعِهَا الرَّئِيسِيِّ سِتُّونَ ذِرَاعاً وعُرْضُ كُلِّ زُقاقٍ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وجُعِلَتِ الأَسْوَاقُ قَرِيبَةً مِنَ الْمَسْجِدِ لِيَسْهُلَ عَلَى النّاسِ الاِتِّصَالُ بِالْوُلاَّةِ وأَدَاءُ الْفَرَائِضِ ودَفْعُ الضَّرَائِبِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ. وقَدِ اتُّخِذَتْ مَقَرّاً لِلْحُكُومَةِ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ.
مَدِينَةُ الْفُسْطَاطِ
بَعْدَ أَنْ تَمَّ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَتْحُ مِصْرَ وطَرْدُ الرُّومِ مِنْها، اِخْتَطَّ مُعَسْكَراً لِجُنْدِهِ سَنَةَ 21ه/642م وسَمَّاهُ الْفُسْطَاطَ فَأَصْبَحَتْ ثَالِثَ مَدِينَةٍ بَنَاها الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْبَصْرَةِ والْكُوفَةِ، وأَخَذَ النَّاسُ يَتَسَابَقُونَ فِي بِنَاءِ الدُّورِ وتَعْمِيرِ الْمَسَاجِدِ فِيهَا ولَمْ يَمْضِ زَمَنٌ طَوِيلٌ عَلَى تَخْطِيطِ الْفُسْطَاطِ حَتَّى صَارَتْ جَمِيلَةَ الْعِمَارَةِ.
وقَدْ وَضَعَ عَمْرٌو أَسَاسَ أَوَّلِ مَسْجِدٍ فِيهَا، وصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةَ وقَدِ اتَّخَذَ الدَّارَ الَّتِي أَقَامَهَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ مَسْكَناً لِلإِمَارَةِ.
مَدِينَةُ الْقِيرَوَانِ
فِي سَنَةِ 661م أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (ض) الْقائِدَ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ لِفَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ (تُونِسَ). وبَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهُ النَّصْرُ، قَامَ بِتَأْسِيسِ مَدِينَةٍ فِي وَسَطِ الصَّحْرَاءِ سَمَّاها الْقِيرَوَانَ لِتَكُونَ مُعَسْكَراً لِلْجُيُوشِ الإِسْلاَمِيَّةِ الْفَاتِحَةِ سَنَةَ 50ه/670م وكانَ لَهَا 14 باباً، وكَانَتْ سُوقُها تَمْتَدُّ عَلَى طَرِيقٍ يَبْدَأُ مِنَ الْجَامِعِ ويَنْتَهِي إلَى بَابِ الرَّبِيعِ فِي جَنُوبِ الْمَدِينَةِ، ويَبْلُغُ طُولُ هَذَا الطَّرِيقِ مِيلاً وثُلُثَيْ مِيلٍ، وكَانَ ذَا سَطْحٍ مُسْتَطِيلٍ، وفِيهِ جَمِيعُ الْمَتَاجِرِ والصِّنَاعَاتِ.
بَغْدَادُ (دَارُ السَّلاَمِ)
عِنْدَمَا تَوَلَّى الْخِلاَفَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ أَبُو جَعْفَرِ الْمَنْصُورُ سَنَةَ 745م خَرَجَ بِنَفْسِهِ لِيَخْتَارَ مَكَاناً يَسْتَقِرُّ بِهِ وبِأَهْلِهِ وجُنْدِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَكَانُ خِصْباً ويَتَوَسَّطَ أَقَالِيمَ دَوْلَتِهِ ويَتَّصِلَ بِسُهُولَةٍ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِها فَاسْتَقَرَّ رَأْيُهُ علَى موْقِعِ بَغْدَادَ الْحالِيِّ، فِي الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ مِنْ نَهْرِ دِجْلَةَ.
مَدِينَةُ الْقاهِرَةِ
بَعْدَ أَنْ تَمَّ لِجَوْهَرٍ الصِّقِلِّيِّ قائِدِ جُيُوشِ الْفَاطِمِيِّينَ فَتْحُ مِصْرَ سَنَةَ 969م شَرَعَ فِي بِنَاءِ مَدِينَةٍ جَدِيدَةٍ لِتَكُونَ مُعَسْكَراً سَمَّاهَا الْقَاهِرَةَ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ عاصِمَةَ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ بَعْدَ انْتِقَالِ الْخَلِيفَةِ الْفَاطِمِيِّ إِلَيْهَا.
خُطَّتِ الْقَاهِرَةُ بِحَيْثُ يَتَوَسَّطُهَا قَصْرُ الْخَلِيفَةِ وأَحَاطَهَا الْمُعِزُّ لِدِينِ اللهِ بِسُورٍ كَبِيرٍ جَعَلَ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ.
وقَدْ أَنْشَأَ الْفَاطِمِيُّونَ فِي الْقَاهِرَةِ قُصُوراً وحَدَائِقَ كَثِيرَةً دَاخِلَ الْقَاهِرَةِ وخَارِجَهَا وبَنَى جَوْهَرٌ الْجَامِعَ الأَزْهَرَ سَنَةَ 361ه/972م وقَدْ بَلَغَتِ الْقَاهِرَةُ قِمَّةَ عَظَمَتِهَا فِي الْعِمَارَةِ والأَدَبِ والتِّجَارَةِ في عَهْدِ الْمَمَالِيكِ.