في زَنَقات تلمسان
+4
thanina
aissa.b
أبو إلياس
نجمة سيّدأحمد
8 مشترك
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: القســــــــــم العـــــــــــــــــــام :: إبداعات الأعضاء و إصداراتهم
صفحة 1 من اصل 1
في زَنَقات تلمسان
في زَنَقاتِ تِلَمْسانَ
في عاصِمَةِ بَنِي عَبْدِ الْواد، في مَحَلَّةِ أَبِي يَحْيَى يَغْمُراسِنَ، كانَ لِزَنَقاتِ الأَرْبَعِينِيَّاتِ رَوْنَقٌ خاصٌّ. كانَتْ تِلَمْسانُ آنذاكَ رائَعةً بِالنَّكْهَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ الْعَتِيقَةِ وكانَ يَحْمِلُ شَذاها عِطْراً أَصِيلاً يُنْعِشُ الْقُلُوبَ.
وكانَ يَزِيدُها رَوْنَقاً على رَوْنَقِها، هَؤُلاءِ الصِّبْيَةُ الْمَرَدَةُ الّذِينَ ما عرفتُ بَعْدُ هلْ إنْساً كانُوا أمْ هُمْ مِنَ الْجانِّ.
عَفارِيتُ يَنُورُونَ في أَرْوِقَتِها، يَسِيلُونَ بَيْنَ مَمَرَّاتِها، يُفْشُونَ فِيها الْبَشاشَةَ رُغْمَ عُبُوسِ الْحَياةِ ويَقْلِبُونَها رَأْساً على عَقِبٍ بِحِيَلِهِمِ الذَّكِيَّةِ وحَرَكاتِهِمْ الشَّيْطانِيَّةِ.
أَنْتُمْ أَيُّها الشُّيُوخُ الّذينَ تَقْرَأُونَنِي، عَلَّ فِيكُمْ مَنْ قَدْ عَرفَ نَفْسَهُ في بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الأَطْوَارِ... تَكْتَسُونَ الْيَوْمَ حُلَّةً مِنَ الْوَقارِ والْبَجالَةِ ولَكِنَّ ذاكِرَتَكُمْ عَسَى أَنْ تُمَثِّلَ لَكُمْ بَعْضَ صُوَرٍ مِنْ تِلْكَ الْعَفْرَتَةِ الّتي كُنْتُمْ تَحْذِقُونَها وتَبْرَعُونَ فِيها أَيَّما بَراعَةٍ!
لا تَخْشَوْا شَيْئاً، لَنْ أَفْضَحَكُمْ عِنْدَ أَحْفادِكُمْ فَلَكُمْ عََلَيْهِمْ كُلُّ الاِحْتِرامِ والطَّاعَةِ وغَيْرُ ذلِكَ باطِل؟!…وبَيْنِي وبَيْنَكُمْ، إنَّهُ لأُنْسٌ كانَ وغابَ مِنْ زَنَقاتِ تِلَمْسانَ فَطُوبَى لَكُمْ أَنْ عِشْتُمُوهُ واسْتَلْذَذْتُمْ بِهِ.
ولَوْ أَنِّي لَمْ أَسْتَمْتِعْ وإيَّاكُمْ بِتِلْكَ الأَيَّامِ، ولَوْ أَنِّي لَمْ أَسِحْ مَعَكُمْ بَيْنَ جَنَباتِ مَدِينَتِكُمْ الْعَصْماءِ، على أَنَّ الْخَيالَ يَنْقُلُنِي إلى طُفُولَتِكُمْ أُلامِسُ بِأَنامِلِي الْمُرْتَعِشَةِ أَطْيافَكُمُ الشَّفافَةَ وكَأَنَّنِي فِيكُمْ ومِنْكُمْ. أَتَمَثَّلُكُمْ بَيْنَ جُدْرانِ الْمُرابِطِينَ وحِيطانِ عبدِ الْمُؤْمِنِ، أَتَخَيَّلُكُمْ وَسَطَ صُرُوحِ بَنِي عُثْمانَ وأَعْمِدَةِ الزِّيانِيِّينَ، في بَهاءٍ ما فَوْقَهُ بَهاءٌ. أُبْصِرُكُمْ تَنْسِلُونَ إلى سُوقِ الْمَدِينَةِ الْبَهِيِّ، وبَيْنَ سِكَّاتِهِ الْمُلْتَوِيَّةِ، تَنْظُرُونَ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ عَزْمُكُمْ على صاحِبِ الدُّلاعِ. دُلاعٌ أَخْضَرُ أَحْمَرُ زَرْكَشَتْهُ أَيادٍ خارِقَةٌ يَسِيلُ لَهُ اللُّعابُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْهِ. كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ بِلَوْنِ الْجَنَّةِ مِنَ الظَّاهِرِ وبِلَوْنِ الْقَلْبِ الْمُفْعَمِ بِالْعِشْقِ مِنَ الْباطِنِ.
يا لَها مِنْ حَبَّاتٍ…!وكَأَنَّ بائعَها قَدْ أَدْرَكَ أَنَّ فاكِهَتَهُ إنَّما هِيَ مِنْ نِعَمِ الْفِرْدَوْسِ فَرَتَّبَها على طاوِلَتِهِ في شَكْلِ هَرَمٍ مَقْلُوبٍ فَجاءَتْ رَأْسُهُ إلى الأَرْضِ وقاعِدَتُهُ إلى السَّماءِ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ اتِّساعِ الْعَيْشِ في الْجَنَّةِ وضِيقِهِ على الأَرْضِ، أَوْ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ فاغِرَةٌ فاها نَحْوَ السَّماءِ تُنادِي:
-هَيَّا يا حَبَّاتِ الْجَنَّةِ…اُدْخُلِي في لَهاتِي، غُورِي في أَحْشائي…هُلْ مِنْ مَزِيد؟
اللَّهُمَّ اِجْعَلِ الْحَبَّاتِ يَكْثُرْنَ في تِلَمْسانَ "مَحْرُوسَةِ الآلِهَةِ"! اللَّهُمَّ اِجْعَلْ فاكِهَةَ الْفِرْدَوْسِ تَزْدَهِرُ في كُلِّ قُرْنَةٍ مِنَ الْمَشْوَرِ!
أَوْ كَأَنَّ الْبائعَ الأُمِّيَّ يَبْغِي أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ فَلْسَفَةٍ غَرِيبَةٍ، غامِضَةٍ في ارْتِقاءِ الإنْسانِ أَسْبابَ السَّماءِ دَوْماً في عُرُوجٍ واتِّساعٍ…
ما أَدْرِي ما التَّعْلِيلُ بِالضَّبْطِ إلاَّ أَنَّ الدُّلاعاتِ كَذَلِكَ مُرَتَّبَةً زادَتْ إغْراءً وفِتْنَةً فَسُحِرْتُمْ بِها - أَنْتُمْ أَيُّها الْعَفارِيتُ- وحَلَفْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا نِظامَ الأَشْياءِ. وكَوَهَجِ النَّقْعِ، مَرَرْتُمْ جَنْبَ الدُّلاعاتِ الْجَمِيلَةِ، جَنْبَ الْبائعِ الْفَكِهِ بَتَرْتِيبِهِ، الزَّاهِي بِبِضاعَتِهِ، وكَأَنَّكُمْ لا تُبالُونَ جَعَلْتُمْ تَتَحَسَّسُونَ الْحَبَّاتِ أَيّهُنَّ تَسْتَأْهِلُّ لَمَساتِكُمْ، تَتَبادَلُونَ الْمُلاحَظاتِ والأَفْكارَ في الْجَوْدَةِ والنَّوْعِيَّةِ وقَدْ عُلِّقَتْ رُوحُ الْبائعِ الْمِسْكِينِ هَلَعاً لِقَرارِكُمْ. ثُمَّ في لَمْحِ الْبَصَرِ ولا أَدْرِي مَتَى بِالضَّبْطِ، لَوَى أَحَدُكُمْ على الدُّلاعاتِ النَّضِرَةِ وبِحَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ لَمْ يُسَجِّلْها أَحدٌ، جَذَبَ تِلْكَ الّتي تُمْسِكُ الأَساسَ فَتَهَدَّمَ الْبِناءُ وانْسَلَخَتِ الْحَبَّاتُ مُتَدْحِرِجاتٍ على الطَّرِيقِ الْواحِدَةَ تِلْوَ الأُخْرَى، مَجْنُوناتٍ، مَهْوُوساتٍ، تَتَقاذَفُها أَقْدامُ الْمارَّةِ كَما لَوْ كانَتْ في مَلْعَبِ كُرَةٍ، وتَمُوتُ الاِبْتِسامَةُ على وَجْهِ الْبائعِ الْمِسْكِينِ وقَدْ وَجَمَ…
إنِّي أَعْلَمُ خَباياكُمْ يا شُيُوخَنا الْكِرامَ. وإنَّنِي لأَتَمَثَّلُ وَجَناتِكُمْ تَحْمَرُّ حِشْمَةً وخَوْفَ أَنْ يَكْتَشِفَ أَحْفادُكُمْ شَطارَتَكُمْ فَيَكُفُّوا عَنْ بَرِّكُمْ ويَعُوقُوكُمْ، أَوْ يَفْعَلُوا مِثْلَكُمْ ويُقَلِّدُوكُمْ، ولَكِنْ لا تَخْشَوْا شَيْئاً، لَنْ أَفْضَحَكُمْ بِما أَنِّي أُعِزُّكُمْ…
ومَعَ ذَلِكَ فَما يَزالُ في جُعْبَتِي أَشْياءُ مِنْ ماضِيكُمْ. لَحْظَتَما كُنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْحَبَّاتِ يَتَراقَصْنَ في السُّوقِ، كُنْتُمْ تَمْتَلِئُونَ كَيْداً وتَفِيضُونَ مَكْراً بَلْ وتَتَهَوَّرُونَ شَطَطاً فَتُعْلِنُونَ أَنْ تِلْكَ لَيْسَتْ إلاَّ الْبِدايَةَ. ثُمَّ تَتَمَلَّصُونَ مِنْ قَبْضَتَيْ الْخَضَّارِ وتَغْرَقُونَ في إحْدَى الزَّنَقاتِ الْمُتَشَعِّبَةِ فَيَتَوَارى أَكْثَرُكُمْ خَلْفَ بَعْضِ الْعَرَصاتِ الْقَدِيمَةِ الّتِي ما تَزالُ واقِفَةً، تَرْفَعُ "جَوْهَرَةَ الْمَغْرِب" على هاماتِها عالِيَةً ثابِتَةً، ويَقْبَعُ أَحَدُكُمْ في رُكْنٍ مُتَسَتِّرٍ يُمْسِكُ بَيْنَ الإبْهامِ والْبَنانِ خَيْطاً رَفِيعاً طَوِيلاً بَيْنَما يَتَوَجَّهُ أَخُوهُ إلى دُكَّانَةِ الْخَفافِجِيِّ وبِيَدِهِ إبْرَةٌ مُسْتَتِرَةٌ، فَبِحَرَكَةٍ عَشْوائيَّةٍ تَبْدُو بَرِيئَةً يَجُسُّ الإسْفَنْجاتِ ويَزِنُها مُعَلِّقاً:
-آهٍ ما أَحْلاها، ما أَطْيَبها!
ثُمَّ، في خِفَّةٍ، يَرْشُقُ الإبْرَةَ في الْخَفافَةِ الّتي بَيْنَ يَدَيْهِ ويَجْذِبُ صاحِبُهُ الْمُخْتَفِي على الْخَيْطِ فَتَطِيرُ الإسْفَنْجَةُ في السَّماءِ كَأَنَّها مَحْمُولَةٌ فَوْقَ جَناحَيْ طَيْرٍ لا مَرْئِيٍّ، أَوْ كَأَنَّ بَعْضَ الْكائناتِ الْعَجِيبَةِ يَنْفُخْنَ فِيها شَهِيقاً زَفِيراً فَتَرْتَفِعُ الْفَطِيرَةُ في الْجَوِّ مُتَطايِرَةً، مُرْتَعِشَةً. ويا لَفَضاعَتِكُمْ وشَقائكُمْ! تَتَطَلَّعُونَ في الْخَفافِجِيِّ الْمَغْبُونِ –مُتَمَزِّقِي الأَشْداقِ ضَحِكاً- يَسْتَعِيذُ اللهَ مِنَ الشَّياطِينِ والْجِنِّ صارِخاً:
-يا عِبادَ الرَّحْمنِ... شُوفُوا الْجْنُونْ، شُوفُوا الَجْنُونْ!
***
تَتَطارَدُ أَيَّامُكُمْ مُتَشابِهَةً على وَتِيرَةٍ مِنَ اللَّهْوِ والْمَرَحِ. وبَيْنَما تَمْلأُ الرَّتابَةُ والْكَآبَةُ دارَ "السْبِيطارْ"، بَلْ وتَتَعَدَّى حُدُودَها إلى تُخُومِ الْمَنْصُورَةِ وأَغادِيرَ، تَخْفِقُ في عُرُوقِكُمْ نَبَضاتُ الزَّهْوِ والْفَرَحِ، ولا تَخْلُو ساعاتُكُمْ وأَيَّامُكُمْ مِنْ أَلاعِيبِ الْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ. يا لَمُفارَقَةِ الْحَياةِ! ويا لَتَضارُبٍ لا يُحْسِنُ وِئامَهُ سِوى أَطْفالٍ على شاكِلَتِكُمْ! أُولاءِ الّذينَ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يَسْكُبُونَ، بِبَراءَتِهِمْ، أَلْواناً مُتَأَلِّقَةً في رُبْدَةِ الأَيَّامِ ويَجْعَلُونَ الأَسْماعَ تُصْغِي إلى أَنْغام الْحَياةِ وشَدْوِها الطَّرُوبِ مَهْماً عَسُرَتْ خُطُوبُها وتَعَقَّدَتْ خُيُوطُها وتَشابَكَتْ ظُرُوفُها.
مَهْماً يَكُنْ! هاهِي ذِي الأَيَّامُ تَتَسابَقُ إلى الْمَوْتِ، يَدْفَعُ بَعْضُها بَعْضاً ثَقِيلاً مُغْبَرَّا. أَمَّا تِلَمْسانُ، فَتَنْطَوِي بِها السَّاعاتُ سَلِسَةً لَذِيذَةً لِمَنْ يُحْسِنُ النَّظَرَ إلى الأَشْباحِ الْبَهْلَوانَةِ في حُجُبِها تَشْطَحُ، وقاتِلَةً كالِحَةً لِمَنْ يَرْزَأُ تَحْتَ شَظَفِ الْعَيْشِ لا يَسْتَقِيمُ عُودُهُ ولا تَبْسَمُ عَيْناهُ لِخُطُوطِ الْفَجْرِ.
تَتَزاحَمُ الأَيَّامُ ويَحِلُّ سَيِّدُنا رَمَضانُ، وفي مَدِينَةِ سَيَّدِي أَبِي مَدْيَنَ شُعَيْبٍ، لَمْ يَكُنْ يَوجَدُ يَوْمَئذٍ مُكَبِّراتُ صَوْتٍ تَحْمِلُ نِداءَ الْمُؤذِّنِ إلى الدِّيارِ، ولا تَلافِيزُ تَنُوبُ عَنْهُ في الْحَثِّ على الصَّلاةِ والْفَلاحِ، ولا غَيْرُها مِنْ هَتِهِ الأَجْهِزَةِ الْحَدِيثَةِ الّتي أَخْطَأَتْ مَهَمَّتَها وأَضْحَتْ، بَدَلاً مِنْ بَثِّ السُّرْعَةِ في خُطَى الْمُؤْمِنِينَ إلى الْمَساجِدِ وآداءِ الْمَناسِكِ تَخْفِرُهُمُ الْمَلائكَةُ، تُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْمَوَاعِيدِ مَعَ الإله.
آنَذاكَ، كانَ أَهْلُ تِلَمْسانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَواضَعُوا على عُرْفٍ جَمِيلٍ فَحْواهُ أَنْ يُكَبِّرَ أَطْفالُ الْحَيِّ الّذي بِهِ الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ، عِنْدَ الْمَغْرِبِ، تِلْوَ الشَّيْخِ مُباشَرَةً، فإذا سَمِعَهُمْ أَطْفالُ الْحَيِّ الْمُجاوِرِ حَدَّ حَدَّ، كَبَّرُوا كَذَلِكَ وهَكَذا دَوالَيْكُمْ حَتَّى يُخْبَرَ كُلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الأَتْقِياءُ بَمْوِعِدِ الأَصِيلِ فَيُفْطِرُوا على بَرَكَةِ اللهِ، مُتَقَبَّلٌ مِنْهُمْ الصِّيامُ مِنَ الأَعْلَى الأَجَلِّ بِإذْنِهِ تَعالَى.
كَأَنَّ أَهْلَ تِلَمْسانَ الْقُدَماءَ أَدْرَكُوا، بِتَقْلِيدِهِمْ هاذاكَ، الإصْرَ الْوَثِيقَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ والطِّفْلِ... أَلْفَوْا الْمَسْجِدَ طَهارَةً والطِّفْلَ بَراءَةً... الْمَسْجِدَ مَحَبَّةً والطِّفْلَ أَيْماً... الْمَسْجِدَ تَواضُعاً وخُشُوعاً والطِّفْلَ مِثَلَهُ أَيْضاً، فَلَمْ يَرَوْا مِنْ ضَيْرٍ في سَكْبِ الطِّفْلِ في الْمَسْجِدِ والْمَسْجِدَ في الطِّفْلِ.
أَمَّا أَنْتُمْ يا أَعِزَّائي، فَلَعَلَّكُمْ كُنْتُمْ مِنْ طِينَةٍ غَيْرِ الّتي جُبِلَ عَلَيْها صِبْيانُ الإنْسانِيَّةِ... أَمْ كَيْفَ تُوحِي لَكُمْ شَقاوَتُكُمْ أَنْ تَصْنَعُوا ما صَنَعْتُمْ؟ كَيْفَ تَبُثُّ فِيكُمْ فَضاعَتُكُمْ أَنْ تَفْسَخُوا على مُتَعَبِّدِي "مَحْرُوسَةِ الآلِهَةِ" صِيامَهُمْ؟ بِضْعُ دَقائقَ قَبْلَ الْمَغْرِب الْمُكْتَمِلِ... مُجَرَّدُ لَحَظاتٍ رَهِيفَةٍ مَعْدُودَةٍ... ولَمَّا يتَحَلَّقُ التِّلَمْسانِيُّونَ حَوْلَ مَوائدِهِمْ الْمَنْصُوبَةِ حَرِيرَةً وبَسْطِيلَةً وأَلَذَّ أَنْواعِ الْمَأْكُولاتِ في الْمَطْبَخِ الأَنْدَلُسِيِّ الْفاخِرِ، يَنْتَظِرُونَ بِصَبْرٍ فارِغٍ ساعَةَ الْعِتْقِ، إذا بِكُمْ تَطَؤُونَ خَشَبَةَ الْمَسْرَحِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وتَخْلَعُونَ عَنِ الشَّيْطانِ بَذْلَتَهُ تَتَقَمَّصُونَها بِسُرْعَةٍ، وتُكَبِّرُونَ في حَيِّكُمْ دَقِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ رُبَّما ثَلاثاً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَتَهافَتُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّائمُونَ على مَلاعِقِهِمْ، يَحْتَسُونَ مُحْتَواها بِلَهْفَةِ الْمُغْرَمِ وشَوْقِ الْمَحْرُومِ، يَكادُونَ يَبْتَلِعُونَ صَحْفاتِهِمْ جُمْلَةً. ويا لَغُصَّةٍ مُهْلِكَةٍ يَرْبَدُّ لَها الْمُحَيَّا وتَجْحَظُ لَها الْعَيْنانِ إذْ يَتَبادَرُ إلى أَسْماعِهِمْ صَدى أَذانٍ رَسْمِيٍّ صَحِيحٍ وتَسْرِيحٍ أَكِيدٍ !…يا لَفَعْلَتِكُمْ الّتي فَعَلْتُمُوها!…ولَكِنْ حَمْداً للهِ أَنْ ثَمَّةَ رَبٌّ رَحِيمٌ غَفُورٌ وَحْدَهُ يُصَرِّفُ الأَحْكامَ.
***
ثُمَّ تَنْسَلِخُ الشُّهُورُ ويَلِجُ قَمَرٌ في قَمَرٍ ويَحْضُرُ عِيدُ النَّصارَى... عَسَى أَنْ يَكُونَ عِيدَ الصُّعُودِ... لا أَدْرِي بَالضَّبْطِ فأَنْتُمْ أَبَداً لَمْ تَفْهَمُوا شَيْئاً في تِلْكَ الْمَواسِمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عاداتِكُمْ وثَقافَةِ آبائكُمْ. يَجيءُ الْعِيدُ إذاً ويَتَظاهَرُ الْقِسِّيسُ مُتَبَخْتِراً في قُفْطانِهِ الْمُوَشَّى وَخَلْفَهُ غِلْمانُ كَنِيسَتِهِ ومَعْشَرُ كَهَنُوتِهِ. ويَصْطَفُّ مُسْلِمُو تِلَمْسانَ على جانِبَيْ الطَّرِيقِ مُتَفَرِّجِينَ. وتَقِفُونَ أَنْتُمْ أطْفالَنا مَعَ الْواقِفِينَ. ثُمَّ تَتَخَمَّرُ في أَذْهانِكُمْ فِكْرَةٌ عَجِيبَةٌ وتَغْدُونَ تَتَساءَلُونَ في شَأْنِ الرَّاهِبِ هَلْ يَرْتَدِي تَحْتَ غَفَّارَتِهِ تُبّاناً أَمْ لا يَرْتَدِي؟ ويَحْتَدُّ بَيْنَكُمُ الْجِدالُ ويَتَفاقَمُ اللَّغَطُ ثُمَّ هاأَنْتُمْ تَتَراهَنُونَ وتَدْفَعُونَ بِأَصْغَرِكُمْ يَأْتِكُمْ بِالْخَبَر الْيَقِينِ. فَتَناوَلَ الصَّغِيرُ قَضِيباً، وبَعْدَ أَنْ خَرَقَ الصَّفَّ، دَنا مِنَ اللَّهُوتِيِّ وبِكُلِّ ظَرْفٍ، رَفَعَ قُفْطانَهُ لِيَنْظُرَ وما كانَ مِنْكُمْ سِوَى أَنِ انْفَجَرْتُمْ ضاحِكِينَ، وعلى أَعْقابِكُمْ مُنْقَلِبِينَ، تَنْحَجِبُونَ كِفِصِّ الْمِلْحِ يَذُوبُ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ بَيْنَما أَكَلَ أَخُوكُمُ الْمَغْبُونُ "سَوْطَةً" ما يَزالُ يَذْكُرُها إلى الْيَوْمِ.
وكانَ يَزِيدُها رَوْنَقاً على رَوْنَقِها، هَؤُلاءِ الصِّبْيَةُ الْمَرَدَةُ الّذِينَ ما عرفتُ بَعْدُ هلْ إنْساً كانُوا أمْ هُمْ مِنَ الْجانِّ.
عَفارِيتُ يَنُورُونَ في أَرْوِقَتِها، يَسِيلُونَ بَيْنَ مَمَرَّاتِها، يُفْشُونَ فِيها الْبَشاشَةَ رُغْمَ عُبُوسِ الْحَياةِ ويَقْلِبُونَها رَأْساً على عَقِبٍ بِحِيَلِهِمِ الذَّكِيَّةِ وحَرَكاتِهِمْ الشَّيْطانِيَّةِ.
أَنْتُمْ أَيُّها الشُّيُوخُ الّذينَ تَقْرَأُونَنِي، عَلَّ فِيكُمْ مَنْ قَدْ عَرفَ نَفْسَهُ في بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الأَطْوَارِ... تَكْتَسُونَ الْيَوْمَ حُلَّةً مِنَ الْوَقارِ والْبَجالَةِ ولَكِنَّ ذاكِرَتَكُمْ عَسَى أَنْ تُمَثِّلَ لَكُمْ بَعْضَ صُوَرٍ مِنْ تِلْكَ الْعَفْرَتَةِ الّتي كُنْتُمْ تَحْذِقُونَها وتَبْرَعُونَ فِيها أَيَّما بَراعَةٍ!
لا تَخْشَوْا شَيْئاً، لَنْ أَفْضَحَكُمْ عِنْدَ أَحْفادِكُمْ فَلَكُمْ عََلَيْهِمْ كُلُّ الاِحْتِرامِ والطَّاعَةِ وغَيْرُ ذلِكَ باطِل؟!…وبَيْنِي وبَيْنَكُمْ، إنَّهُ لأُنْسٌ كانَ وغابَ مِنْ زَنَقاتِ تِلَمْسانَ فَطُوبَى لَكُمْ أَنْ عِشْتُمُوهُ واسْتَلْذَذْتُمْ بِهِ.
ولَوْ أَنِّي لَمْ أَسْتَمْتِعْ وإيَّاكُمْ بِتِلْكَ الأَيَّامِ، ولَوْ أَنِّي لَمْ أَسِحْ مَعَكُمْ بَيْنَ جَنَباتِ مَدِينَتِكُمْ الْعَصْماءِ، على أَنَّ الْخَيالَ يَنْقُلُنِي إلى طُفُولَتِكُمْ أُلامِسُ بِأَنامِلِي الْمُرْتَعِشَةِ أَطْيافَكُمُ الشَّفافَةَ وكَأَنَّنِي فِيكُمْ ومِنْكُمْ. أَتَمَثَّلُكُمْ بَيْنَ جُدْرانِ الْمُرابِطِينَ وحِيطانِ عبدِ الْمُؤْمِنِ، أَتَخَيَّلُكُمْ وَسَطَ صُرُوحِ بَنِي عُثْمانَ وأَعْمِدَةِ الزِّيانِيِّينَ، في بَهاءٍ ما فَوْقَهُ بَهاءٌ. أُبْصِرُكُمْ تَنْسِلُونَ إلى سُوقِ الْمَدِينَةِ الْبَهِيِّ، وبَيْنَ سِكَّاتِهِ الْمُلْتَوِيَّةِ، تَنْظُرُونَ يَمْنَةً ويَسْرَةً، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ عَزْمُكُمْ على صاحِبِ الدُّلاعِ. دُلاعٌ أَخْضَرُ أَحْمَرُ زَرْكَشَتْهُ أَيادٍ خارِقَةٌ يَسِيلُ لَهُ اللُّعابُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْهِ. كُلُّ حَبَّةٍ مِنْهُ بِلَوْنِ الْجَنَّةِ مِنَ الظَّاهِرِ وبِلَوْنِ الْقَلْبِ الْمُفْعَمِ بِالْعِشْقِ مِنَ الْباطِنِ.
يا لَها مِنْ حَبَّاتٍ…!وكَأَنَّ بائعَها قَدْ أَدْرَكَ أَنَّ فاكِهَتَهُ إنَّما هِيَ مِنْ نِعَمِ الْفِرْدَوْسِ فَرَتَّبَها على طاوِلَتِهِ في شَكْلِ هَرَمٍ مَقْلُوبٍ فَجاءَتْ رَأْسُهُ إلى الأَرْضِ وقاعِدَتُهُ إلى السَّماءِ. كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنِ اتِّساعِ الْعَيْشِ في الْجَنَّةِ وضِيقِهِ على الأَرْضِ، أَوْ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ فاغِرَةٌ فاها نَحْوَ السَّماءِ تُنادِي:
-هَيَّا يا حَبَّاتِ الْجَنَّةِ…اُدْخُلِي في لَهاتِي، غُورِي في أَحْشائي…هُلْ مِنْ مَزِيد؟
اللَّهُمَّ اِجْعَلِ الْحَبَّاتِ يَكْثُرْنَ في تِلَمْسانَ "مَحْرُوسَةِ الآلِهَةِ"! اللَّهُمَّ اِجْعَلْ فاكِهَةَ الْفِرْدَوْسِ تَزْدَهِرُ في كُلِّ قُرْنَةٍ مِنَ الْمَشْوَرِ!
أَوْ كَأَنَّ الْبائعَ الأُمِّيَّ يَبْغِي أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ فَلْسَفَةٍ غَرِيبَةٍ، غامِضَةٍ في ارْتِقاءِ الإنْسانِ أَسْبابَ السَّماءِ دَوْماً في عُرُوجٍ واتِّساعٍ…
ما أَدْرِي ما التَّعْلِيلُ بِالضَّبْطِ إلاَّ أَنَّ الدُّلاعاتِ كَذَلِكَ مُرَتَّبَةً زادَتْ إغْراءً وفِتْنَةً فَسُحِرْتُمْ بِها - أَنْتُمْ أَيُّها الْعَفارِيتُ- وحَلَفْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا نِظامَ الأَشْياءِ. وكَوَهَجِ النَّقْعِ، مَرَرْتُمْ جَنْبَ الدُّلاعاتِ الْجَمِيلَةِ، جَنْبَ الْبائعِ الْفَكِهِ بَتَرْتِيبِهِ، الزَّاهِي بِبِضاعَتِهِ، وكَأَنَّكُمْ لا تُبالُونَ جَعَلْتُمْ تَتَحَسَّسُونَ الْحَبَّاتِ أَيّهُنَّ تَسْتَأْهِلُّ لَمَساتِكُمْ، تَتَبادَلُونَ الْمُلاحَظاتِ والأَفْكارَ في الْجَوْدَةِ والنَّوْعِيَّةِ وقَدْ عُلِّقَتْ رُوحُ الْبائعِ الْمِسْكِينِ هَلَعاً لِقَرارِكُمْ. ثُمَّ في لَمْحِ الْبَصَرِ ولا أَدْرِي مَتَى بِالضَّبْطِ، لَوَى أَحَدُكُمْ على الدُّلاعاتِ النَّضِرَةِ وبِحَرَكَةٍ سَرِيعَةٍ لَمْ يُسَجِّلْها أَحدٌ، جَذَبَ تِلْكَ الّتي تُمْسِكُ الأَساسَ فَتَهَدَّمَ الْبِناءُ وانْسَلَخَتِ الْحَبَّاتُ مُتَدْحِرِجاتٍ على الطَّرِيقِ الْواحِدَةَ تِلْوَ الأُخْرَى، مَجْنُوناتٍ، مَهْوُوساتٍ، تَتَقاذَفُها أَقْدامُ الْمارَّةِ كَما لَوْ كانَتْ في مَلْعَبِ كُرَةٍ، وتَمُوتُ الاِبْتِسامَةُ على وَجْهِ الْبائعِ الْمِسْكِينِ وقَدْ وَجَمَ…
إنِّي أَعْلَمُ خَباياكُمْ يا شُيُوخَنا الْكِرامَ. وإنَّنِي لأَتَمَثَّلُ وَجَناتِكُمْ تَحْمَرُّ حِشْمَةً وخَوْفَ أَنْ يَكْتَشِفَ أَحْفادُكُمْ شَطارَتَكُمْ فَيَكُفُّوا عَنْ بَرِّكُمْ ويَعُوقُوكُمْ، أَوْ يَفْعَلُوا مِثْلَكُمْ ويُقَلِّدُوكُمْ، ولَكِنْ لا تَخْشَوْا شَيْئاً، لَنْ أَفْضَحَكُمْ بِما أَنِّي أُعِزُّكُمْ…
ومَعَ ذَلِكَ فَما يَزالُ في جُعْبَتِي أَشْياءُ مِنْ ماضِيكُمْ. لَحْظَتَما كُنْتُمْ تُبْصِرُونَ الْحَبَّاتِ يَتَراقَصْنَ في السُّوقِ، كُنْتُمْ تَمْتَلِئُونَ كَيْداً وتَفِيضُونَ مَكْراً بَلْ وتَتَهَوَّرُونَ شَطَطاً فَتُعْلِنُونَ أَنْ تِلْكَ لَيْسَتْ إلاَّ الْبِدايَةَ. ثُمَّ تَتَمَلَّصُونَ مِنْ قَبْضَتَيْ الْخَضَّارِ وتَغْرَقُونَ في إحْدَى الزَّنَقاتِ الْمُتَشَعِّبَةِ فَيَتَوَارى أَكْثَرُكُمْ خَلْفَ بَعْضِ الْعَرَصاتِ الْقَدِيمَةِ الّتِي ما تَزالُ واقِفَةً، تَرْفَعُ "جَوْهَرَةَ الْمَغْرِب" على هاماتِها عالِيَةً ثابِتَةً، ويَقْبَعُ أَحَدُكُمْ في رُكْنٍ مُتَسَتِّرٍ يُمْسِكُ بَيْنَ الإبْهامِ والْبَنانِ خَيْطاً رَفِيعاً طَوِيلاً بَيْنَما يَتَوَجَّهُ أَخُوهُ إلى دُكَّانَةِ الْخَفافِجِيِّ وبِيَدِهِ إبْرَةٌ مُسْتَتِرَةٌ، فَبِحَرَكَةٍ عَشْوائيَّةٍ تَبْدُو بَرِيئَةً يَجُسُّ الإسْفَنْجاتِ ويَزِنُها مُعَلِّقاً:
-آهٍ ما أَحْلاها، ما أَطْيَبها!
ثُمَّ، في خِفَّةٍ، يَرْشُقُ الإبْرَةَ في الْخَفافَةِ الّتي بَيْنَ يَدَيْهِ ويَجْذِبُ صاحِبُهُ الْمُخْتَفِي على الْخَيْطِ فَتَطِيرُ الإسْفَنْجَةُ في السَّماءِ كَأَنَّها مَحْمُولَةٌ فَوْقَ جَناحَيْ طَيْرٍ لا مَرْئِيٍّ، أَوْ كَأَنَّ بَعْضَ الْكائناتِ الْعَجِيبَةِ يَنْفُخْنَ فِيها شَهِيقاً زَفِيراً فَتَرْتَفِعُ الْفَطِيرَةُ في الْجَوِّ مُتَطايِرَةً، مُرْتَعِشَةً. ويا لَفَضاعَتِكُمْ وشَقائكُمْ! تَتَطَلَّعُونَ في الْخَفافِجِيِّ الْمَغْبُونِ –مُتَمَزِّقِي الأَشْداقِ ضَحِكاً- يَسْتَعِيذُ اللهَ مِنَ الشَّياطِينِ والْجِنِّ صارِخاً:
-يا عِبادَ الرَّحْمنِ... شُوفُوا الْجْنُونْ، شُوفُوا الَجْنُونْ!
***
تَتَطارَدُ أَيَّامُكُمْ مُتَشابِهَةً على وَتِيرَةٍ مِنَ اللَّهْوِ والْمَرَحِ. وبَيْنَما تَمْلأُ الرَّتابَةُ والْكَآبَةُ دارَ "السْبِيطارْ"، بَلْ وتَتَعَدَّى حُدُودَها إلى تُخُومِ الْمَنْصُورَةِ وأَغادِيرَ، تَخْفِقُ في عُرُوقِكُمْ نَبَضاتُ الزَّهْوِ والْفَرَحِ، ولا تَخْلُو ساعاتُكُمْ وأَيَّامُكُمْ مِنْ أَلاعِيبِ الْهُزْءِ والسُّخْرِيَةِ. يا لَمُفارَقَةِ الْحَياةِ! ويا لَتَضارُبٍ لا يُحْسِنُ وِئامَهُ سِوى أَطْفالٍ على شاكِلَتِكُمْ! أُولاءِ الّذينَ يَعْرِفُونَ كَيْفَ يَسْكُبُونَ، بِبَراءَتِهِمْ، أَلْواناً مُتَأَلِّقَةً في رُبْدَةِ الأَيَّامِ ويَجْعَلُونَ الأَسْماعَ تُصْغِي إلى أَنْغام الْحَياةِ وشَدْوِها الطَّرُوبِ مَهْماً عَسُرَتْ خُطُوبُها وتَعَقَّدَتْ خُيُوطُها وتَشابَكَتْ ظُرُوفُها.
مَهْماً يَكُنْ! هاهِي ذِي الأَيَّامُ تَتَسابَقُ إلى الْمَوْتِ، يَدْفَعُ بَعْضُها بَعْضاً ثَقِيلاً مُغْبَرَّا. أَمَّا تِلَمْسانُ، فَتَنْطَوِي بِها السَّاعاتُ سَلِسَةً لَذِيذَةً لِمَنْ يُحْسِنُ النَّظَرَ إلى الأَشْباحِ الْبَهْلَوانَةِ في حُجُبِها تَشْطَحُ، وقاتِلَةً كالِحَةً لِمَنْ يَرْزَأُ تَحْتَ شَظَفِ الْعَيْشِ لا يَسْتَقِيمُ عُودُهُ ولا تَبْسَمُ عَيْناهُ لِخُطُوطِ الْفَجْرِ.
تَتَزاحَمُ الأَيَّامُ ويَحِلُّ سَيِّدُنا رَمَضانُ، وفي مَدِينَةِ سَيَّدِي أَبِي مَدْيَنَ شُعَيْبٍ، لَمْ يَكُنْ يَوجَدُ يَوْمَئذٍ مُكَبِّراتُ صَوْتٍ تَحْمِلُ نِداءَ الْمُؤذِّنِ إلى الدِّيارِ، ولا تَلافِيزُ تَنُوبُ عَنْهُ في الْحَثِّ على الصَّلاةِ والْفَلاحِ، ولا غَيْرُها مِنْ هَتِهِ الأَجْهِزَةِ الْحَدِيثَةِ الّتي أَخْطَأَتْ مَهَمَّتَها وأَضْحَتْ، بَدَلاً مِنْ بَثِّ السُّرْعَةِ في خُطَى الْمُؤْمِنِينَ إلى الْمَساجِدِ وآداءِ الْمَناسِكِ تَخْفِرُهُمُ الْمَلائكَةُ، تُثَبِّطُهُمْ عَنِ الْمَوَاعِيدِ مَعَ الإله.
آنَذاكَ، كانَ أَهْلُ تِلَمْسانَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ تَواضَعُوا على عُرْفٍ جَمِيلٍ فَحْواهُ أَنْ يُكَبِّرَ أَطْفالُ الْحَيِّ الّذي بِهِ الْمَسْجِدُ الْكَبِيرُ، عِنْدَ الْمَغْرِبِ، تِلْوَ الشَّيْخِ مُباشَرَةً، فإذا سَمِعَهُمْ أَطْفالُ الْحَيِّ الْمُجاوِرِ حَدَّ حَدَّ، كَبَّرُوا كَذَلِكَ وهَكَذا دَوالَيْكُمْ حَتَّى يُخْبَرَ كُلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الأَتْقِياءُ بَمْوِعِدِ الأَصِيلِ فَيُفْطِرُوا على بَرَكَةِ اللهِ، مُتَقَبَّلٌ مِنْهُمْ الصِّيامُ مِنَ الأَعْلَى الأَجَلِّ بِإذْنِهِ تَعالَى.
كَأَنَّ أَهْلَ تِلَمْسانَ الْقُدَماءَ أَدْرَكُوا، بِتَقْلِيدِهِمْ هاذاكَ، الإصْرَ الْوَثِيقَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ والطِّفْلِ... أَلْفَوْا الْمَسْجِدَ طَهارَةً والطِّفْلَ بَراءَةً... الْمَسْجِدَ مَحَبَّةً والطِّفْلَ أَيْماً... الْمَسْجِدَ تَواضُعاً وخُشُوعاً والطِّفْلَ مِثَلَهُ أَيْضاً، فَلَمْ يَرَوْا مِنْ ضَيْرٍ في سَكْبِ الطِّفْلِ في الْمَسْجِدِ والْمَسْجِدَ في الطِّفْلِ.
أَمَّا أَنْتُمْ يا أَعِزَّائي، فَلَعَلَّكُمْ كُنْتُمْ مِنْ طِينَةٍ غَيْرِ الّتي جُبِلَ عَلَيْها صِبْيانُ الإنْسانِيَّةِ... أَمْ كَيْفَ تُوحِي لَكُمْ شَقاوَتُكُمْ أَنْ تَصْنَعُوا ما صَنَعْتُمْ؟ كَيْفَ تَبُثُّ فِيكُمْ فَضاعَتُكُمْ أَنْ تَفْسَخُوا على مُتَعَبِّدِي "مَحْرُوسَةِ الآلِهَةِ" صِيامَهُمْ؟ بِضْعُ دَقائقَ قَبْلَ الْمَغْرِب الْمُكْتَمِلِ... مُجَرَّدُ لَحَظاتٍ رَهِيفَةٍ مَعْدُودَةٍ... ولَمَّا يتَحَلَّقُ التِّلَمْسانِيُّونَ حَوْلَ مَوائدِهِمْ الْمَنْصُوبَةِ حَرِيرَةً وبَسْطِيلَةً وأَلَذَّ أَنْواعِ الْمَأْكُولاتِ في الْمَطْبَخِ الأَنْدَلُسِيِّ الْفاخِرِ، يَنْتَظِرُونَ بِصَبْرٍ فارِغٍ ساعَةَ الْعِتْقِ، إذا بِكُمْ تَطَؤُونَ خَشَبَةَ الْمَسْرَحِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ، وتَخْلَعُونَ عَنِ الشَّيْطانِ بَذْلَتَهُ تَتَقَمَّصُونَها بِسُرْعَةٍ، وتُكَبِّرُونَ في حَيِّكُمْ دَقِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ رُبَّما ثَلاثاً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَيَتَهافَتُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّائمُونَ على مَلاعِقِهِمْ، يَحْتَسُونَ مُحْتَواها بِلَهْفَةِ الْمُغْرَمِ وشَوْقِ الْمَحْرُومِ، يَكادُونَ يَبْتَلِعُونَ صَحْفاتِهِمْ جُمْلَةً. ويا لَغُصَّةٍ مُهْلِكَةٍ يَرْبَدُّ لَها الْمُحَيَّا وتَجْحَظُ لَها الْعَيْنانِ إذْ يَتَبادَرُ إلى أَسْماعِهِمْ صَدى أَذانٍ رَسْمِيٍّ صَحِيحٍ وتَسْرِيحٍ أَكِيدٍ !…يا لَفَعْلَتِكُمْ الّتي فَعَلْتُمُوها!…ولَكِنْ حَمْداً للهِ أَنْ ثَمَّةَ رَبٌّ رَحِيمٌ غَفُورٌ وَحْدَهُ يُصَرِّفُ الأَحْكامَ.
***
ثُمَّ تَنْسَلِخُ الشُّهُورُ ويَلِجُ قَمَرٌ في قَمَرٍ ويَحْضُرُ عِيدُ النَّصارَى... عَسَى أَنْ يَكُونَ عِيدَ الصُّعُودِ... لا أَدْرِي بَالضَّبْطِ فأَنْتُمْ أَبَداً لَمْ تَفْهَمُوا شَيْئاً في تِلْكَ الْمَواسِمِ الْغَرِيبَةِ عَنْ عاداتِكُمْ وثَقافَةِ آبائكُمْ. يَجيءُ الْعِيدُ إذاً ويَتَظاهَرُ الْقِسِّيسُ مُتَبَخْتِراً في قُفْطانِهِ الْمُوَشَّى وَخَلْفَهُ غِلْمانُ كَنِيسَتِهِ ومَعْشَرُ كَهَنُوتِهِ. ويَصْطَفُّ مُسْلِمُو تِلَمْسانَ على جانِبَيْ الطَّرِيقِ مُتَفَرِّجِينَ. وتَقِفُونَ أَنْتُمْ أطْفالَنا مَعَ الْواقِفِينَ. ثُمَّ تَتَخَمَّرُ في أَذْهانِكُمْ فِكْرَةٌ عَجِيبَةٌ وتَغْدُونَ تَتَساءَلُونَ في شَأْنِ الرَّاهِبِ هَلْ يَرْتَدِي تَحْتَ غَفَّارَتِهِ تُبّاناً أَمْ لا يَرْتَدِي؟ ويَحْتَدُّ بَيْنَكُمُ الْجِدالُ ويَتَفاقَمُ اللَّغَطُ ثُمَّ هاأَنْتُمْ تَتَراهَنُونَ وتَدْفَعُونَ بِأَصْغَرِكُمْ يَأْتِكُمْ بِالْخَبَر الْيَقِينِ. فَتَناوَلَ الصَّغِيرُ قَضِيباً، وبَعْدَ أَنْ خَرَقَ الصَّفَّ، دَنا مِنَ اللَّهُوتِيِّ وبِكُلِّ ظَرْفٍ، رَفَعَ قُفْطانَهُ لِيَنْظُرَ وما كانَ مِنْكُمْ سِوَى أَنِ انْفَجَرْتُمْ ضاحِكِينَ، وعلى أَعْقابِكُمْ مُنْقَلِبِينَ، تَنْحَجِبُونَ كِفِصِّ الْمِلْحِ يَذُوبُ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ بَيْنَما أَكَلَ أَخُوكُمُ الْمَغْبُونُ "سَوْطَةً" ما يَزالُ يَذْكُرُها إلى الْيَوْمِ.
حمّام قرقور 1999م
نجمة سيّد احمد
(في قِبب بني مِزْغِنّا)
نجمة سيّد احمد
(في قِبب بني مِزْغِنّا)
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: في زَنَقات تلمسان
لقد أرّخت يا نجمة لمدينة تلمسان بعاداتها و تقاليدها و بعض الطقوس التي يمارسها أبناؤها.
و أنت بذلك نقلت صورة حيّة لواقع ساد المنطقة بكل تناقضاته منذ أزيد من نصف قرن.
نقدّر فيك هذاالعمل و الجهد المبذول.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
و أنت بذلك نقلت صورة حيّة لواقع ساد المنطقة بكل تناقضاته منذ أزيد من نصف قرن.
نقدّر فيك هذاالعمل و الجهد المبذول.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
aissa.b- عضو برونزي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 19/11/2010
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 885
الـمــــــــــــزاج : هادىء
رد: في زَنَقات تلمسان
جازاكم الله جميعا أعضاء هذا المنتدى على تشجيعكم وحفظ الله لنا كبارنا وشيوخنا الّذين ما يزالون يربطون بيننا وبين ماضينا فقد قال الصّينيّون: "من لا ماضي له، لا مستقبل له."
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: في زَنَقات تلمسان
بورك فيك على هذا الابداع
thanina- عضو جديد
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 07/06/2010
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 20
الـمــــــــــــزاج : حلو
رد: في زَنَقات تلمسان
بورك في الجميع.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: في زَنَقات تلمسان
شككرا لك على هذه القصة التاريخية
تينهينان- عضو نشيط
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 05/11/2010
العـــــمـــــر : 34
عـــدد المساهمـــات : 129
الـمــــــــــــزاج : طيب
رد: في زَنَقات تلمسان
اهتمامك.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: في زَنَقات تلمسان
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
mariakari- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
العـــــمـــــر : 27
عـــدد المساهمـــات : 1251
الـمــــــــــــزاج : سعيدة
رد: في زَنَقات تلمسان
merci bcp
h.rima- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 09/06/2011
العـــــمـــــر : 28
عـــدد المساهمـــات : 544
الـمــــــــــــزاج : cool
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
رد: في زَنَقات تلمسان
تشوقت زيارتها واظنه امرا بعيدا
كمال- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 10/06/2011
العـــــمـــــر : 29
عـــدد المساهمـــات : 1127
الـمــــــــــــزاج : دائما احسن
رد: في زَنَقات تلمسان
بل قريب إن شاء الله.
نجمة سيّدأحمد- عضو مميز
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 04/12/2010
العـــــمـــــر : 56
عـــدد المساهمـــات : 695
الـمــــــــــــزاج : حادّ
منتديات بني ورثيلان التعليمية :: القســــــــــم العـــــــــــــــــــام :: إبداعات الأعضاء و إصداراتهم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2016, 19:32 من طرف أبو إلياس
» الله هو الغنيُّ المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:29 من طرف أبو إلياس
» صفة من صفات أهل الإسلام
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:27 من طرف أبو إلياس
» آداب الإنترنت: فنون المعاتبة .. ومعالجة الأخطاء
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:26 من طرف أبو إلياس
» مركز اللغات بجامعة المدينة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 18:35 من طرف أبو إلياس
» مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 00:34 من طرف Nassima Tlemcen
» aidez-moi vite svp
الثلاثاء 12 يناير 2016, 16:30 من طرف أبو إلياس
» حوليات وزارة التربية 2012 في العلوم الطبيعية
الجمعة 04 ديسمبر 2015, 13:04 من طرف lynda2013
» لمـــــــــــــــــــاذا تبـــــــكي النّســـــــــــــــــــاء
الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 18:46 من طرف أبو إلياس