النجاة من العطب بقليل من الأدب
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
النجاة من العطب بقليل من الأدب
النجاة من العطب بقليل من الأدب
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
خرج الإمامُ ابنُ العربيِّ في صغرِه إلى المشرقِ مع أبيه، وكاد البحرُ يومًا يغرقهم، وكاد الجوعُ والبردُ بعد خروجِهم مِنَ البحرِ أن يُهلكَهم لولا أنّ اللهَ تعالى بسببٍ طريفٍ أنقذهم. وقد قصّ الإمامُ ذلك في كتابِه «ترتيب الرحلة» ونقله عنه المقري في «نفح الطيب»، ونقلناه عنه لما فيه من عجيبِ لطفِ اللهِ ونفعِ المعرفةِ على كلِّ حالٍ في جميعِ المواطنِ، قال الإمامُ:
«وقد سبق في علمِ اللهِ أنْ يَعْظُمَ علينا البحرُ بِزَوْلِهِ (بعَجَبه)، ويُغرقَن بهَوْلِه، فخرجْنا خروجَ الميِّتِ مِنَ القبرِ، وانتهيْنا بعد خطبٍ طويلٍ إلى بيوتِ بني كعبِ بنِ سليمٍ ونحن مِنَ السَّغَبِ على عطبٍ، ومِنَ العريِ في أقبحِ زيٍّ، قد قذف البحرُ زقاقَ زيتٍ مزّقتِ الحجارة منيئتها (الجلد أول ما يدبغ)، ودسّمَتِ الأدهانُ وبرَها وجلدتَها، فاحتزمْناها أُزُرًا، واشتملْناها ألفافًا، تمجّن الأنظارُ، وتخذلنا الأنصارُ، فعطف أميرُهم علينا فأوَيْنا إليه فآوانا، وأطعمن اللهُ على يدَيْه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمرٍ حقيرٍ ضعيفٍ، فنٍّ مِنَ العلمِ ظريفٍ، وشرحُه: أنّا لمّا وقفنا على بابه ألفيْناه يُدير أعوادَ الشاهِ (الشّطرنج)، فِعْلَ السّامدِ اللاّهِ، فدنوتُ منه في تلك الأطمارِ، وسمح لي بيادقتُه إذ كنتُ مِنَ الصّغرِ في حدًّ يُسمح فيه للأغمارِ، ووقفتُ بإزائِهم، أنظر إلى تصرُّفهم مِنْ ورائِهم، إذ كان عَلِقَ بنفسي بعضُ ذلك مِنْ بعضِ القرابةِ، في خلسِ البطالةِ، مع غلبةِ الصّبوةِ والجهالةِ، فقلتُ للبيادقةِ: «الأميرُ أعلمُ مِنْ صاحبِه»، فلمحوني شزرًا، وعَظُمْتُ في أعينِهم بعد أن كنتُ نزرًا، وتقدّم إلى الأميرِ مَن نقل إليه الكلامَ فاستدناني فدنوتُ منه وسألني: هل لي بما هم فيه خبرٌ، فقلتُ: «لي فيه بعضُ نظرٍ، سيبدو لك ويظهر، حرِّكْ تلك القطعةَ»، ففعل كما أشرتُ، وعارضه صاحبُه كذلك، فأمرتُه أن يحرّكَ الأخرى، وما زالت الحركاتُ بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأميرُ، فقالوا: «ما أنت بصغيرٍ»، وكان في أثناءِ تلك الحركاتِ قد ترنّم ابنُ عمِّ الأميرِ مُنْشِدًا:
وَأَحْلَى الهَوَى مَا شَكَّ فِي الوَصْلِ رَبُّهُ * وَفِي الهَجْرِ فَهْوَ الدَّهْرَ يَرْجُو وَيَتَّقِي
فقال: «لعن اللهُ أبا الطّيبِ أوَيشكّ الرّبُّ»، فقلتُ له في الحالِ: «ليس كما ظنّ صاحبُك أيها الأمير، إنّما أراد بالرّبِّ هاهنا الصّاحبَ، يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحبُّ فيه مِنَ الوصالِ وبلوغِ الغرضِ مِنَ الآمالِ على ريبٍ، فهو في وقتِه كلِّه على رجاءٍ لما يؤمِّله، وتقاةٍ لما يقطع به، كما قال:
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الحُبِّ سُخْطٌ وَلاَ رِضً * فَأَيْنَ حَلاَوَاتُ الرَّسَائِلِ وَالكُتْبِ
وأخذْنا نُضيف إلى ذلك مِنَ الأغراضِ في طرفَيْ إبرامٍ وانتقاضٍ ما حرّك منهم إلى جهتي دواعِيَ الانتهاضِ، وأقبلوا يتعجّبون منّي، ويسألونني كم سنِّي، ويستكشفوني عنِّي، فبَقَرْتُ (فتحْتُ) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (ما بطن مِنْ أمري)، وأعلمْتُ الأميرَ أنّ أبي معي فاستدعاه، وأقمنا الثّلاثةَ إلى مثواه، فخلع علينا خِلَعَه، وأسبل علينا أدمُعَه، وجاء كلُّ خوانٍ بأفنانٍ وألوانٍ، فانظر إلى هذا العِلْمِ (الشّطرنجِ) الذي هو إلى الجهلِ أقربُ، مع تلك الصُّبابةِ اليسيرةِ مِنَ الأدبِ، كيف أنقذا مِنَ العطبِ، وهذا الذّكرُ يرشدكم -إن عقلتم- إلى المطلب. (وهو الرّغبة في العلم والحرص عليه)».
__________________________
[«آثار عبد الحميد بن باديس»: 3/177] .
ْْْْْْْْْْْْْْْْْْْ
خرج الإمامُ ابنُ العربيِّ في صغرِه إلى المشرقِ مع أبيه، وكاد البحرُ يومًا يغرقهم، وكاد الجوعُ والبردُ بعد خروجِهم مِنَ البحرِ أن يُهلكَهم لولا أنّ اللهَ تعالى بسببٍ طريفٍ أنقذهم. وقد قصّ الإمامُ ذلك في كتابِه «ترتيب الرحلة» ونقله عنه المقري في «نفح الطيب»، ونقلناه عنه لما فيه من عجيبِ لطفِ اللهِ ونفعِ المعرفةِ على كلِّ حالٍ في جميعِ المواطنِ، قال الإمامُ:
«وقد سبق في علمِ اللهِ أنْ يَعْظُمَ علينا البحرُ بِزَوْلِهِ (بعَجَبه)، ويُغرقَن بهَوْلِه، فخرجْنا خروجَ الميِّتِ مِنَ القبرِ، وانتهيْنا بعد خطبٍ طويلٍ إلى بيوتِ بني كعبِ بنِ سليمٍ ونحن مِنَ السَّغَبِ على عطبٍ، ومِنَ العريِ في أقبحِ زيٍّ، قد قذف البحرُ زقاقَ زيتٍ مزّقتِ الحجارة منيئتها (الجلد أول ما يدبغ)، ودسّمَتِ الأدهانُ وبرَها وجلدتَها، فاحتزمْناها أُزُرًا، واشتملْناها ألفافًا، تمجّن الأنظارُ، وتخذلنا الأنصارُ، فعطف أميرُهم علينا فأوَيْنا إليه فآوانا، وأطعمن اللهُ على يدَيْه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمرٍ حقيرٍ ضعيفٍ، فنٍّ مِنَ العلمِ ظريفٍ، وشرحُه: أنّا لمّا وقفنا على بابه ألفيْناه يُدير أعوادَ الشاهِ (الشّطرنج)، فِعْلَ السّامدِ اللاّهِ، فدنوتُ منه في تلك الأطمارِ، وسمح لي بيادقتُه إذ كنتُ مِنَ الصّغرِ في حدًّ يُسمح فيه للأغمارِ، ووقفتُ بإزائِهم، أنظر إلى تصرُّفهم مِنْ ورائِهم، إذ كان عَلِقَ بنفسي بعضُ ذلك مِنْ بعضِ القرابةِ، في خلسِ البطالةِ، مع غلبةِ الصّبوةِ والجهالةِ، فقلتُ للبيادقةِ: «الأميرُ أعلمُ مِنْ صاحبِه»، فلمحوني شزرًا، وعَظُمْتُ في أعينِهم بعد أن كنتُ نزرًا، وتقدّم إلى الأميرِ مَن نقل إليه الكلامَ فاستدناني فدنوتُ منه وسألني: هل لي بما هم فيه خبرٌ، فقلتُ: «لي فيه بعضُ نظرٍ، سيبدو لك ويظهر، حرِّكْ تلك القطعةَ»، ففعل كما أشرتُ، وعارضه صاحبُه كذلك، فأمرتُه أن يحرّكَ الأخرى، وما زالت الحركاتُ بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأميرُ، فقالوا: «ما أنت بصغيرٍ»، وكان في أثناءِ تلك الحركاتِ قد ترنّم ابنُ عمِّ الأميرِ مُنْشِدًا:
وَأَحْلَى الهَوَى مَا شَكَّ فِي الوَصْلِ رَبُّهُ * وَفِي الهَجْرِ فَهْوَ الدَّهْرَ يَرْجُو وَيَتَّقِي
فقال: «لعن اللهُ أبا الطّيبِ أوَيشكّ الرّبُّ»، فقلتُ له في الحالِ: «ليس كما ظنّ صاحبُك أيها الأمير، إنّما أراد بالرّبِّ هاهنا الصّاحبَ، يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحبُّ فيه مِنَ الوصالِ وبلوغِ الغرضِ مِنَ الآمالِ على ريبٍ، فهو في وقتِه كلِّه على رجاءٍ لما يؤمِّله، وتقاةٍ لما يقطع به، كما قال:
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الحُبِّ سُخْطٌ وَلاَ رِضً * فَأَيْنَ حَلاَوَاتُ الرَّسَائِلِ وَالكُتْبِ
وأخذْنا نُضيف إلى ذلك مِنَ الأغراضِ في طرفَيْ إبرامٍ وانتقاضٍ ما حرّك منهم إلى جهتي دواعِيَ الانتهاضِ، وأقبلوا يتعجّبون منّي، ويسألونني كم سنِّي، ويستكشفوني عنِّي، فبَقَرْتُ (فتحْتُ) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (ما بطن مِنْ أمري)، وأعلمْتُ الأميرَ أنّ أبي معي فاستدعاه، وأقمنا الثّلاثةَ إلى مثواه، فخلع علينا خِلَعَه، وأسبل علينا أدمُعَه، وجاء كلُّ خوانٍ بأفنانٍ وألوانٍ، فانظر إلى هذا العِلْمِ (الشّطرنجِ) الذي هو إلى الجهلِ أقربُ، مع تلك الصُّبابةِ اليسيرةِ مِنَ الأدبِ، كيف أنقذا مِنَ العطبِ، وهذا الذّكرُ يرشدكم -إن عقلتم- إلى المطلب. (وهو الرّغبة في العلم والحرص عليه)».
__________________________
[«آثار عبد الحميد بن باديس»: 3/177] .
عبد الله ابن عبد الله- عضو نشيط
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 10/05/2013
العـــــمـــــر : 40
عـــدد المساهمـــات : 193
الـمــــــــــــزاج : معتدل
mariakari- عضو فضي
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 15/11/2011
العـــــمـــــر : 27
عـــدد المساهمـــات : 1251
الـمــــــــــــزاج : سعيدة
رد: النجاة من العطب بقليل من الأدب
أشكركم إخواني وإخواتي لمروركم على منشوراتي ... ولكم مثل ما دعوتم وزيادة ...
عبد الله ابن عبد الله- عضو نشيط
- الجـــنـــس :
تاريخ التسجيل : 10/05/2013
العـــــمـــــر : 40
عـــدد المساهمـــات : 193
الـمــــــــــــزاج : معتدل
مواضيع مماثلة
» النجاة من الفتن
» النجاة في اتِّباع الرحمة المهداة
» تاريخ الأدب العربي
» طه حسين - عميد الأدب العربي
» ملخص جميع دروس الأدب العربي
» النجاة في اتِّباع الرحمة المهداة
» تاريخ الأدب العربي
» طه حسين - عميد الأدب العربي
» ملخص جميع دروس الأدب العربي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين 08 فبراير 2016, 19:32 من طرف أبو إلياس
» الله هو الغنيُّ المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:29 من طرف أبو إلياس
» صفة من صفات أهل الإسلام
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:27 من طرف أبو إلياس
» آداب الإنترنت: فنون المعاتبة .. ومعالجة الأخطاء
الإثنين 08 فبراير 2016, 18:26 من طرف أبو إلياس
» مركز اللغات بجامعة المدينة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 18:35 من طرف أبو إلياس
» مجلة جامعة المدينة العالمية المحكمة
الثلاثاء 19 يناير 2016, 00:34 من طرف Nassima Tlemcen
» aidez-moi vite svp
الثلاثاء 12 يناير 2016, 16:30 من طرف أبو إلياس
» حوليات وزارة التربية 2012 في العلوم الطبيعية
الجمعة 04 ديسمبر 2015, 13:04 من طرف lynda2013
» لمـــــــــــــــــــاذا تبـــــــكي النّســـــــــــــــــــاء
الأربعاء 18 نوفمبر 2015, 18:46 من طرف أبو إلياس