نصّ قديم عن الأمانة

الأَمَانَة
ولَمَّا دَخَلْتُ "سَخَسِينَ" سَنَةَ خَمْسٍ وعِشْرِينَ وخَمْسِمِئَةٍ، اِجْتَمَعَ إٍلَيَّ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وغَيْرِهِمْ وفِي جُمْلَتِهِمْ شَيْخٌ ضَعِيفٌ لَهُ ثِيابٌ خَلِقَةٌ فَأَلْقَى عِنْدِي سِوَارَ ذَهَبٍ وَزْنُهُ أَرْبَعُونَ مِثْقَالاً وقَالَ: - مَا أَصْنَعُ بِهَذَا السِّوَارِ؟
فَقُلْتُ: -لاَ أَدْرِي مَا تَصْنَعُ بِهِ لَسْتُ بِصَائِغٍ حَتَّى أَعْلَمَ مَا تَعْمَلُ بِهِ.
فَقَالَ: -اِشْتَرَيْتُ سَمَكَةً بِطَسُّوجٍ فَوَجَدْتُ هَذَا السِّوَارَ فِي بَطْنِهَا.
فَقُلْتُ: -عَرِّفْهُ.
فَقَالَ: -قَدْ عَرَّفْتُهُ ثَلاَثَ سِنِينَ أَشُدُّهُ فِي عُكَّازِي وأَدُورُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ والأَسْوَاقِ والْبُيُوتِ والطُّرُقَاتِ وفِي دُورِ الأُمَرَاءِ فًلاً أَجِدُ لَهُ مَنْ يَدَّعِيهِ.
فَقُلْتُ: -خُذْهُ أَنْتَ فَإِنَّهُ مَالٌ حَلاَلٌ وأَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ.
فَغَضِبَ مِنْ كَلاَمِي فَقَالَ: -واللهِ لاَ تَرَانِي آكُلُهُ.
فَقُلْتُ: -لِمَاذَا تَقُولُ هَذَا الْكَلاَمَ؟
قَالَ: -لأَنِّي رَجُلٌ صَانِعٌ أَعْمَلُ الْخِفَافَ وآخُذُ مَا يَكْفِينِي.
فَقُلْتُ: -اِفْدِ بِهِ الأَسَارَى مِنْ أَيْدِي التُّرْكِ.
فَفَرِحَ وقَالَ: -بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ فَرَّجْتَ عَنِّي كُرْبَةً.
فَقُلْتُ: -أَوَ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَأْمُرُكَ بِمِثْلِ هَذَا؟
فَقَالَ: - هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يَقُولُ: "أَعْطِنَا إِيَّاهُ ونَحْنُ نَعْرِفُ مَا نَصْنَعُ بِهِ." وإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَكْلَهُ.


يُظَنُّ أَنَّها مَدِينَةُ "قَازَان" فِي رُوسِيا.
الطَّسُّوج: عُمْلَةٌ قَدْرُها رُبْعُ دَانِق.

تلك هي الطامة الكبرى ، ففي الوقت الذي يثق الناس في أهل العلم و يأتمنونهم على ودائعهم المختلفة ،
إذا بهم يعرفون ما يصنعون بها ، فينفعوا بها أنفسهم ، و هم في غنىً عنها.

والطّامّة الأكبر أنّها آفّة قديمة عرفها الأوّلون مع قربهم للإسلام، فما عسى أن نقوله اليوم وقد بعدنا عنه بقرون؟
ثمّ هل يعني هذا أنّه ما ينبغي لنا الحيرة والجزع لأنّها بالآخر عادة معروفة في طبيعة الإنسان، أم بالعكس، يجب التّحسّر لأنّه متجذّرة فيه سارية مسرى الدّم فلا شفاء منها؟

المرور الطّيّب يا عاشق الجنّة.